بقلم - خالد منتصر
عندما أشاهد طلبة الثانوية العامة المصريين أمام اللجان يوم امتحان الفيزياء، ومنهم من يبكى، ومنهم من يصرخ، ومنهم المغمى عليه ومنهم من يحاول الانتحار!! أندهش من هذا الكم من الكراهية والخوف والرعب من هذا العلم الذى يتحكم فى كل تفاصيل حياتنا، والذى أهدانا أعظم النعم التكنولوجية، من الموبايل إلى القمر الصناعى إلى العلاج بالليزر والمنظار والتشخيص بالأشعة، حتى إن ترجمته العربية هى علم الطبيعة، يعنى باختصار كل مهم حولنا، أتساءل وأنا أراقب هذا المشهد كيف نجعل هؤلاء يحبون الفيزياء أو العلم عموماً؟ عندما أستمع إلى حوارات عن نظرية التطور كلها مغالطات وجهل ببديهيات التطور وأيضاً بأبسط مفاهيم العلم ومعنى النظرية والتجربة ودور الزمن فى التطور.. إلخ، أضرب كفاً بكف ويعترينى الحزن، وأتساءل كيف نجعل من العلم جذاباً ومحبوباً بغض النظر عن انتماءاتنا الفكرية وخلافاتنا الأيديولوجية، وأحزن عندما أجد الغالبية تتبنى العداء للعلم ومعانيه وأبجدياته، كذلك نظرية الكم والنسبية وقوانين نيوتن والحرارة والضوء، وأهمية التفاعلات الكيميائية وكل ما هو علمى، أجد ضحالة معلومات رهيبة لدى شبابنا وكبارنا على السواء، مما ينذر بكارثة عقلية وفكرية، فمع احترامى للأدب لا أستطيع أن أفهم هذا التهافت على القسم الأدبى فى المدارس الثانوية، أغلبه ليس حباً فى الأدب ولا التاريخ والجغرافيا، لكنه هروب من المواد العلمية ونفور منها، السؤال الذى يفرض نفسه ولا بد من مناقشته وطرحه، كيف نحبب هؤلاء فى العلم؟ كيف نفض هذا الاشتباك؟ متى لهذا الخصام أن يتحول إلى تصالح بل وتلذذ ونشوة بقراءة العلم والتعامل مع نظرياته؟ لا بد من تبسيط العلوم للأطفال أولاً، وأنا فى متحف لندن وجدت تمثال داروين فى المدخل، ثم بعدها بأمتار قليلة مكتبة تضم شرحاً لنظرية التطور للأطفال، بكل بساطة وبدون خيانة للنظرية نفسها، والأهم بدون إضفاء وجهات نظر عقائدية على الموضوع، وكذلك فى نيويورك عندما زرت متحف العلوم، كانت هناك كتب مصورة للأطفال عن البيج بانج وبداية الكون والمجرات والكواكب وعلم الفلك، فى هولندا على سبيل المثال متحف جميل معظم زائريه من الأطفال، يقوم فيه الطفل برحلة داخل جسم الإنسان، ويتعرف عليه عضواً عضواً، ويفهم معنى الدى إن إيه، وما هى مكونات الخلية، والسؤال العويص الذى تخشى منه الأسر المصرية، أنا جيت الدنيا إزاى؟ ردود وشرح بمنتهى السلاسة وبالعلم أيضاً، وبدون تشويش أو تشويه، كل هذه المتاحف العلمية وسائل لتبسيط المفاهيم العلمية التى نظنها معقدة ولا يستطيع أحد تفكيكها، كان لدينا فى الستينات والسبعينات كتاب قادرون على تبسيط العلوم، منهم العظيم الراحل د. عبدالمحسن صالح، أستاذ الميكروبيولوجى فى علوم الإسكندرية، ساهمت كتبه عن الخلية والبكتيريا والوراثة فى محبة الكثير من الشباب للعلم، استكمل المشوار د. أحمد مستجير، وبعدها حدثت قطيعة، وأصبح من النادر أن نجد شاباً عاشقاً للعلم، أو طالباً يتذكر ما درسه بعد التخرج من الثانوى، المدرسة عليها الدور الأول فى هذا الجهد لتقريب الطالب إلى العلم، لا بد من تخفيض التلقين لصالح الفهم والتعامل والشك والسؤال، لا بد من أن يكون المعمل شريكاً فى العملية التعليمية بقوة، ولا يكون أمين المعمل مجرد موظف يراقب الطلبة ويمنعهم من لمس الأجهزة ويحمى العهدة، لا بد لشاشات التليفزيون أن تستعيد البرامج العلمية الجذابة، فقد كنا نقدم العلم والإيمان وتكنولوجيا وعالم الحيوان وعالم البحار، وكان الفيلم الوثائقى العلمى أكثر جاذبية من الفيلم السينمائى الهوليودى! البرنامج العلمى ليس كما نتصور، متجهماً أو جافاً أو معقداً مكلكعاً! بالعكس البرنامج العلمى مبهج ولطيف وجذاب، ومن الممكن أن يكون رقم واحد، الأول على كل البرامج، شاهدوا البرامج العلمية الأمريكية على سبيل المثال، شاهدوا حلقات نيل ديجراس تايسون وكيف يتابعها الملايين بكل شغف وحب، يتكلم عن الفلك وبداية الكون والتطور وموضوعات غاية فى الصعوبة، يبسطها وأحياناً يحولها لكوميديا! يخلط العلم بالابتسامة، ويمزج النظريات بالضحكات، فالعلم هو ما جعل الإنسان إنساناً، ولا بد أن يتم الاهتمام به وعرضه وفهمه، لأنه ببساطة قارب النجاة وشاطئ الوصول وبوصلة الاتجاه وصمام الأمان، لا بد أن ننزع الكراهية عن العلم والشماتة فيه، والسماح للكتاب والعلماء والفنانين بالمشاركة فى صناعة هذا الحب وتلك النهضة، المصرى القديم كان يمارس العلم ونظرياته بدون أكاديميات، كان يتنفسه، وقد آن الأوان لعودة هذه الممارسة وذلك الحب، فالاقتصاد والإنتاج وحتى الأخلاق لن تنصلح إلا بأن يكون العلم فى نسيج الروح وتلافيف العقل وتحت جلد كل مصرى.
المسألة ليست مفاجأة، فكل دول العالم التى دخلت إلى عصر الحداثة دخلت بالعلم، والدول التى سقطت انهارت لتخليها عن العلم. ولا بد أن نفهم أن العلم ليس هو التكنولوجيا، لكنه الفكرة التى صنعت تلك التكنولوجيا، الفكرة التى صنعت الموبايل والقمر الصناعى وأجهزة الليزر، وأهم ما فى تلك الفكرة جسارة السؤال وشجاعة علامة الاستفهام، والقدرة على استيعاب أى اختلاف أو فكرة جديدة حتى ولو شاردة. العلم روحه سؤال، ولو اختنق السؤال مات العلم. نيوتن كان دليله السؤال، أديسون كانت مغامرته علامة الاستفهام، عندنا ابن سينا وابن الهيثم وجابر بن حيان، كلهم تساءلوا، وللأسف كلهم هوجموا لأنهم سبحوا ضد التيار وفكروا خارج صندوق الأسمنت الجامد الذى يقولب ويسجن الأفكار.
حبِّبوا أبناءكم فى العلم حتى ننهض، اجذبوهم إليه وعلموهم فضيلة السؤال والكشف والبحث عن الحقيقة فى المعمل لا فى حفلات الزار.