رحيل المحامى الكاتب المثقف المؤرخ الموسوعى رجائى عطية، ليس خسارة للمحاماة فقط ولكنه خسارة للثقافة المصرية، فهو واحد من كبار المثقفين المصريين الوطنيين، وهذا ما كتبته عن واحد من أهم كتبه التى أعترف بأننى تأخرت فى التعرف عليها والاقتراب من ثرائها، كتبت وقت إهدائه لى هذا الكتاب:
أعترف بالتقصير فى تأخر اطّلاعى على هذا الكتاب المهم، كتاب «دماء على جدار السلطة»، فهو مرجع لا غنى عنه لكل من يريد استكمال رحلة بحث طه حسين عن أسباب الفتنة الكبرى، أخذنا المحامى الكبير رجائى عطية فى رحلة تفاصيلها مرعبة ومخزية، لكن لا بد أن نتعلم منها ونتمعن فيها، هى رحلة دم أريق من أجل كرسى السلطة، كتبها بمشرط جراح محترف، ورؤية وطنى محب، ولغة أديب بارع، وتدفق حكّاء جذاب، ودقة مؤرخ عاشق، الكتاب ضخم يزيد على 400 صفحة، وأرجو من دار الشروق توفيره فى طبعة شعبية، لكى يطلع الجيل الجديد على تاريخ الصراع من أجل السلطة فى تاريخ المسلمين، وتنضج رؤيته ويفيق من وهم تحقيق الخلافة وجنّتها المزعومة، يكفى أن يعرف هذا الشاب أن جسر الخلافة فى هذا التاريخ قد شُيّد على الجماجم والرؤوس المقطوعة التى اختار المؤلف لها تعبيراً أكثر ميلودرامية ودراكيولية ظل يتردد عبر الصفحات، وهو تعبير «احتز رأسه»!، لكى يصل هذا الإحساس السيكوباتى الذى كان يمتلك على الذابح عقله المغيب، وهو يهتف الله أكبر، متلذّذاً بنافورة الدم الدافقة المندفعة من شرايين الرقبة، وهذه لمحة من تلك الرؤوس التى حزّها وجزّها وفصلها قائدون ومحاربون فى تاريخ المسلمين: شمر بن ذى جوشن فصل رأس الحسين عن جسده بـ12 ضربة سيف من القفا، الخليفة كان يزيد بن معاوية.
انتقاماً للحسين قُطع رأس عمر بن سعد بن أبى وقاص فى حربه مع المختار الثقفى.
قطع رأس المختار الثقفى بواسطة مصعب بن الزبير، وأُرسل إلى عبدالله بن الزبير، وقطعت كفّه وسُمرت بمسمار إلى جانب المسجد.
قُطع رأس مصعب بن الزبير بواسطة زياد بن ظبيان، وأُرسل إلى عبدالملك بن مروان، الذى سجد لله شكراً عندما رآه، ثم أرسل رأسه إلى شقيقه عبدالله بن الزبير.
قُطع رأس عبدالله بن الزبير بواسطة الحجاج بن يوسف الثقفى، الذى أرسله إلى عبدالملك بن مروان، ثم قام بصلب جسده، وعندما وصلت الجثة إلى أمه أسماء كانت قطعاً متناثرة، ولم يصلِّ عليه إلا هى وشقيقه عروة.
قطع رأس قطرى بن الفجاءة، وأرسل إلى الحجاج.
قطع رأس ابن الأشعث، رغم انتحاره بعد هزيمته من الحجاج فى دير الجماجم، ومقتل ثلاثين ألفاً من جنوده.
قطع رأس زيد بن على زين العابدين، حفيد الحسين، فى حربه مع هشام بن عبدالملك، بعد نبش قبره، وإخراج جثته، جُزّ رأسه، ثم صُلب، ثم حُرق، ثم طُحنت عظامه.
بعد موت هشام بن عبدالملك قطع رأس الخليفة الوليد بن يزيد الثانى وحمل رأسه إلى دمشق.
قُطعت جثتا عبدالملك بن مروان وهشام بن عبدالملك بعدما أخرجهما أبوالعباس السفاح من القبر، وجلد الجثة ثمانين جلدة، ثم حرقها، ونثر رمادها مع الريح.
قطع رأس محمد النفس الزكية، حفيد الحسن، وأرسل إلى الخليفة أبوجعفر المنصور، ثم قطع رأس عبدالله الأشتر، الذى واصل معركة النفس الزكية، وأرسل إلى الخليفة نفسه.
قطع رأس الحسين الفخى فى معركته مع الخليفة العباسى الهادى، ونُقل من مكة إلى بغداد لزوم اطمئنان الخليفة على الذبيحة.
وأختار لكم لضيق المساحة بعض الاقتباسات من هذا السفر العظيم التى قصدها المؤرخ المهموم رجائى عطية، لكى تدرسوا دلالاتها، اقرأوا جيداً ما كتبه على لسان أبى جعفر المنصور، حينما قال فى خطبته: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله فى أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه.. اسمعوا كيف افتخر قائد مسلم بحفلة القتل فى موقعة الحرة واستباحة المدينة المنورة بأطفالها وشيوخها ونسائها، اسمعوا مسلم بن عقيل، وهو يتحدّث بمنتهى الورع والتقوى عن ضحاياه: فما صليت الظهر أصلح الله أمير المؤمنين إلا فى مسجدهم، وبعد القتل الذريع، والانتهاب العظيم، أوقعنا بهم السيوف وقتلنا من أشرف لنا منهم، وأتبعنا لاحقنا مدبرهم، وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناهم ثلاثاً، كما قال أمير المؤمنين، أعز الله نصره.
وأنا أتساءل أخيراً: ما طعم ذلك النصر الذى بمذاق الدم النازف، والأشلاء المبعثرة، والبطون المبقورة، والجماجم المطحونة، والأجساد المصلوبة، والرؤوس المقطوعة، والعيون المفزوعة!، إجابة هذا السؤال وغيرها ستجدها فى هذا الكتاب الرائع الدسم بقلم الراجى تقدم هذا الوطن، المعطاء لمستقبله، الحريص على تماسك نسيجه.. رجائى عطية.