اختلف المفكرون حول معنى ومبنى "العولمة"، وهل هي حديثة العهد، أم قديمة بدرجة أو بأخرى، وما إذا كانت فوائدها أكثر من أضرارها. ومضى الخلاف من حولها متشابكًا بين هويّتها، وهل هي ذات صبغة غربية، تهدف إلى ديمومة فعل "الفوقية الإمبريالية" التقليدي، بل أكثر من ذلك تساءل البعضُ: هل العولمة هي الصنو والمرادف للهيمنة الأميركية على العالم؟
حكمًا طفا هذا المفهوم على عالمنا المعاصر بعد أن تراجعت القوة الوحيدة المكافئة للولايات المتحدة الأميركية، أي الاتّحاد السوفيتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وبالوصول إلى أوائل عقد التسعينيات، اعتبرت الولايات المتحدة أنها هي العولمة بأدواتها التاريخية، من سطوة عسكريّة، وقوة اقتصادية لا تُضارَع ، عطفًا على أفق سياسي ساطع يكاد يتلاعب بكافّة المنظمات الأممية، بدءًا من الأمم المتحدة.
اليومَ وفي ظلّ تطوُّرات ثلاثة عقود، يَعِنُّ لنا التساؤل: هل بلغت "العولمة الأميركية"، إن جاز القول، نهايات خطّ السباق، وبات العالمُ في مواجهة مرحلة جديدة تحتاج إلى مُسَمَّيات أكثر دقّةً، ربما يكون من المناسب تسميتها "مرحلة إعادة التوازن للعالم"، حتى وإن لم يكن المشهد في الغد القريب؟
من بين أفضل العقول المفكّرة التي شاغبت فكرة نشوء العولمة ومن ثم سقوطها، يأتي البروفيسور الكندي "جون رالستون سول"، الفيلسوف والمؤرخ والذي شَخَّصَ قبل أكثر من عقد من الزمان معالم العولمة، قبل انهيارها الفعلي والذي بدأ في تقدير الكثيرين مع الأزمة الماليّة التي ضربت الولايات المتحدة الأميركية عام 2008؛ حيث تزلزلت عقدية الكيانات الماليّة التي لا تهتزّ، بالضبط كما ادَّعَى البعض أن سفينة "تيتانك" لا يمكن أن تغرق، وغرقت في أول رحلة لها.
كانت وعود العولمة عند جون رالستون بمثابة مدٍّ ترتفع موجاتُه باستمرار، ومن شأنه أن يحمل على متنه جميع السفن. ولكنّ ارتفاعَ المَدّ في حدِّ ذاته أمرٌ خطير، فما بين القوارب إلى عابرات المحيط، تظل السفن تتهَيَّأ لتقلبات أنواء البحر، التي ترتفع بين مَدٍّ وجَزْرٍ، فإذا بها تصطدم بالصخور، فتجنح على الشواطئ أو تنجرف إلى المستنقعات، أو قد تنقلب لتغوص في قاع البحر.
هنا يَعِنُّ لنا التساؤل: "هل انهيار العولمة أحد أسبابه افتقاد العالم إلى قباطنة مقتدرين وأطقمٍ من أمهر البَحَّارة، ومراسي من فولاذ وحبال متينة فضلاً عن شكل من أشكال المرونة المنظمة والسيطرة الواعية؟
تبدو سفينة العولمة وعن حقٍّ في عوز شديد لهذه التوليفة شبه السحرية، وليس هناك ما هو أشدُّ احتياجًا للتنظيم من سفينة تَمْخُر عباب بحر متلاظم الأمواج.
أظهرت عدة عوارض أن الحلم بعولمة مطلقة تزيل الحدود والسدود، هو حلمٌ مَخْمَليّ ورديّ جميل، لكنه غير قابل للتطبيق في واقع الأمر... هل من دليل؟
يكفي أن ينظر المرء إلى حال العالم في زمن تفَشّي جائحة كوفيد – 19 قبل بضعة أعوام، وانقلاب الجميع إلى تيار القوميّة المنغلقة على الذات وتراجع فكرة عولمة التواصل القافزة على خطوط الطول والعرض، وخرائط التقسيمات الدولية.
ضمن الأدران المعولمة، ما يجري اليوم في أسواق المال، والتي باتت مرتبطة بالسوق الأميركي بنوع خاصّ، ويكفي المرء متابعة أحوال البورصات وفوائد البنوك وبيانات الفيدرالي الأميركي لجهة التضخم، ليشعر أن هناك حالة من القلق تصل حدود الرفض للتسليم لواشنطن بمُقَدَّرات العالم المالية، لا سِيّما في ظل التوترات السياسية والعسكرية في داخل الجمهورية مالئة الدنيا وشاغلة الناس.
كان من العلامات البارزة للعولمة، السير في خُطَى المؤسسات المالية العالمية، لا سيّما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، غير أن الخبرات الحياتية لقطاعات جغرافية بأكملها، أثبتت فشل هذا المسعى المعولم.. هل من مثال؟
يمكننا التدليل بأميركا الجنوبية التي جربت العولمة على مدار عقد من الزمن، فأدّى ذلك إلى انهيار.
هنا قد يقول غُلاة الدعاة إن القارة لم تكن قد جربت المسألة على النحو المطلوب أو بالصورة الجادة، بل اكتنف التجربةَ قدرٌ كبير من المحسوبية والفساد، وأن الاتحادات والنقابات كانت قوية أكثر ممّا ينبغي.
غير أن هذا الكلام مردود عليه، سِيّما أن الديمقراطية الغربية نشأت من رحم ظروف لم يكتمل لها أيٌّ من شروط الكمال.
لم تُقَرِّب العولمةُ المسافات جغرافيًّا، بل المؤكد أنها باعدت بين سكان القارات والدول إيديولوجيًّا ووجدانيًّا؛ فقد صحا الكثيرون على حقيقة أن هناك حكامًا جددًا لهذا العالم، يسعون إلى السيطرة والهيمنة، عبر كافة الميكانيزمات المتاحة بشريًّا.
يكفي المرء أن يطالع بضع صفحات من تقرير "لوغانو" والذي يفضح من غير اللجوء إلى سرديّة فكر المؤامرة، ما يتم الترتيب والتدبير له منذ العام 1996، بهدف حفاظ الكبار في المعسكر الغربي بنوع خاص، على مُقَدَّراتهم الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين، ليؤمن وعن حقٍّ أن هناك تيارًا فكريًّا جديدًا في الغرب، وخصوصًا في الولايات المتحدة الأميركية، بدأ يتنبه إلى خطورة انفلات العولمة بصورة متوحشة وشريرة، تلتهم الفقراء في عالم اليوم لصالح تمركز الثروة وتركز السلطة في أيدي قِلّةٍ من الأغنياء الأقوياء، الأمر الذي يؤدي إلى عكس الهدف الذي تسعى إليه العولمة، باعتبارها أحد تجليات الليبرالية الرأسمالية بثقافتها وقِيَمها الغربية.
هل هي مصادفة قَدَرية أم موضوعية أن ينطلق اجتماع لوغانو في سويسرا، والذي تكلم فيه أقطابُ الأرض عن حتمية تبَخُّر بضعة مليارات من أقنانها الفقراء، قبل عام واحد من ظهور طرح "القرن الأميركي"، عام 1997 في الداخل الأميركي، والذي قام عليه تيار المحافظين الجدد، وجُلُّ هَمّهم صَبْغُ القرن الحادي والعشرين بصبغة أميركية خالصة لا شراكة فيها لأي قوة أخرى على سطح البسيطة.
على مشارف منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يكاد يكون حساب العولمة مُثقَلاً بالآثام الأصليّة ومُحمَّلاً بالذنوب المميتة الخاصة بقضايا مصيرية مثل جوع العالم، وفقر العالم الثالث، وأثر ديون نصف الكرة الجنوبي، والعلاقات الشائكة بين الشمال والجنوب، ناهيك عن الدور السلبي للشركات العابرة للقارات في السيطرة على مُقَدَّرات الضعفاء.
هل ستكون الحروب قابلة النظام العالمي الجديد، نظام ما بعد العولمة؟
بحسب كارل ماركس، العنف قابلة التاريخ، لكن بالرجوع إلى أينشتاين، حين سُئِل عن الحرب العالمية الثالثة وملامحها، أجاب جوابًا مثيرًا: "لا أعرف كيف يمكن أن يكون شكلها"، لكن ما أنا واثق منه تمام الثقة، هو أن الحرب العالمية الرابعة سوف تكون قتالاً بالعِصِيّ والأحجار، في كناية عن الدمار النووي.
تماثل الأوقاتُ الحالية أزمنةَ ما قبل الحربَيْن العالميتَيْن الأولى والثانية، ولم يتبقَّ غيرُ من يضغط على الزر النووي، إلا أن وُجِدت "فيالق العقلاء" لا الحمقى لانتشال العالم من وهدته الراهنة".