لطالما مثلت العلاقات الأميركية الإسرائيلية نموذجا غير مسبوق على صعيد التعاون بين أي دولتين حول العالم، الأمر الذي دعا الكثيرين للتساؤل حول سر هذه العلاقات، وما الذي يجمع البلدين.
غير أن ما جرت وتجري به المقادير في الأيام الأخيرة من أحداث، قد أخذ يرسم علامة استفهام وقلق من حول مستقبل تلك العلاقة، وإلى أين تمضي، في ظل تغيرات واضحة من الجانبين، وبما ينذر بمستقبل مثير يمكن أن تتعرض فيه الثوابت إلى اهتزازات بفعل النوازل الحديثة.
لم يكن لحكومة نتنياهو أن تداري أو تواري مئات الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع، رافضين التعديلات القضائية الجديدة، تلك التي يسعى رئيس الوزراء إلى إقرارها، والتي تكفل له شكلا من أشكال الحصانة، وتقطع الطريق على ملاحقته قضائيا.
يمكن للمرء أن يتفهم الأمر في إطار الخلافات الداخلية، غير أن المشهد بدا ينحو في اتجاه آخر، وذلك حين ارتفعت أصوات بعض المقربين من نتنياهو، باتهام مراكز بعينها وجهات قائمة بذاتها في واشنطن، بتمويل حملات الاحتجاج هذه.
هل يمكن لواشنطن أن تفعل هذا وهي حامي حمى إسرائيل منذ زمان وزمانين؟
المؤكد أن ما بين واشنطن وتل أبيب أمر يفوق العلاقات الدبلوماسية، إذ إن هناك رابطا دوغمائيا وعقديا يجمع بين الاثنين، سيما أن الروح التوراتية ساكنة البيت الأبيض منذ اللحظات الأولى لكتابة وثيقة الاستقلال الأميركية، وتشكل نواة الجمهورية الأميركية الأولى على يد الآباء المؤسسين.
اعتبرت إسرائيل الابنة الروحية للولايات المتحدة الأميركية، وقد تم الاعتراف بها كدولة مستقلة، بعد ساعة واحدة من إعلان مولدها عام 1948.
عبر نحو ثمانية عقود، ناصرت واشنطن تل أبيب على طول الخط، ومن غير تفكير، بل أحيانا كانت بعض الإدارات الأميركية ملكية أكثر من الملك، وإسرائيلية أكثر من الإسرائيليين أنفسهم.
هل كان لهذه العلاقة أن تتغير وتتبدل الأوضاع وتختلف الطباع؟
مخطئ من يظن أن هناك في عالم السياسة صداقات دائمة أو عداوات دائمة، بل هناك مصالح دائمة.
تبدو تل أبيب اليوم مليئة بالقلق الوجودي من التغيرات الحادثة في قلب الداخل الأميركي، سيما في ظل انكشاف الكثير من زيف الدعاوى التي لطالما روجت لها حكومات إسرائيل المتعاقبة، من قبيل العداء العربي الواجب الوجود لها، ومحاولة جيرانها إلقاءها في البحر، وجميعها قد أبطلتها خطوات عربية سعت ولاتزال في طريق العيش في سلام، والخلاص من حالة العداء التاريخية، ووقف سيل الدماء التي أريقت عبر حروب طوال.
كانت تلك الرغبات العربية وستظل مشروطة بإحقاق الحقوق الفلسطينية، والتوصل إلى صيغ ملؤها العدالة، تقر ما أقرته شرعة حقوق الإنسان أول الأمر، والقوانين والمواثيق الدولية ثانية، وفي المقدمة حق الشعب الفلسطيني في قيام دولته المستقلة، والحفاظ على مدينة القدس عاصمة لهذه الدولة، والاعتراف بحقوق الشعب الذي أجبر على الهجرة وعيش الشتات حول العالم.
لكن عوضا عن ذلك، تستمر أعمال العداء وسط غوغائية المستوطنين الذين جاؤوا من كل صوب وحدب، ليطردوا أصحاب الأرض الأصليين، وقد كانت تعليقات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، في زيارته الأخيرة لإسرائيل واضحة وضوح الشمس في ضحاها، حين حذر من أعمال العنف المتمادية للغاية، التي يقوم بها المستوطنون، وتغلق الأبواب أمام فرص السلام في المستقبل.
ليس سرا القول إن هناك خلافات بدأت صامتة، ثم أخذت تتردد في الأرجاء، بين واشنطن وتل أبيب، فقد وجدت أصوات في الأجيال الأميركية الجديدة، لا سيما داخل الجامعات، وفي وسائل الإعلام، ترفض أسلوب ونمط التعامل الإسرائيلي، وترى فيه مثالا للقسوة المفرطة، وتدعو للتعاطي مع حقوق الشعب الفلسطيني.
المثير في المشهد أن تلك الآراء انتشرت بين الجماعات الداعمة تاريخيا لدولة إسرائيل من يهود أميركا، مثل جماعة الإيباك التي انشقت منها جماعة جي ستريت، وفلسفتها تقوم على أن دعم إسرائيل على هذا النحو السادر سيؤدي إلى هلاكها في المستقبل القريب.
في الأيام الأخيرة، ومنذ انطلاق تلك التظاهرات، جاءت التحذيرات مخيفة من أن يؤدي الأمر إلى حرب أهلية، وقد كان الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هيرتسوغ، من بين الأصوات المنذرة والمحذرة من هذا المصير، واعتبار أن بلاده وصلت إلى "نقطة اللاعودة"، ودعا الحكومة الائتلافية إلى إعادة النظر في التشريع المقترح، الذي تدعمه بقوة الأحزاب القومية والدينية.
اقتراح نتنياهو الخاص بقانون السلطة القضائية وعلى حد تعبير هيرتسوغ، يقوض أسس الديمقراطية التي طالما تباهت بها إسرائيل معتبرة ذاتها واحة وسط صحراء.
غير أن هذا التوجه من حكومة نتنياهو كان سببا إضافيا لمراكمة الأزمة مع واشنطن، سيما بعد أن وقع أكثر من 80 عضوا ديمقراطيا في الكونغرس على رسالة للرئيس الأميركي جون بايدن، يدعونه فيها إلى "استخدام جميع الأدوات الدبلوماسية المتاحة لمنع الحكومة الإسرائيلية الحالية من إلحاق المزيد من الضرر بالمؤسسات الديمقراطية الإسرائيلية".
رويدا رويدا يبدو أن هناك اعتراضات مقلقة لحكومة نتنياهو تصدر من الداخل الأميركي، خذ إليك على سبيل المثال الخطاب الذي ألقته الحاخام شارون بروس في لوس أنجلوس بعنوان "دموع صهيون"، وقد حثت فيه مجتمعها على "عدم النوم أثناء الثورة"،ومعارضة نظام نتنياهو غير الليبرالي والقومي" على حد قولها.
وفي نيويورك، كتب رئيس البلدية السابق مايكل بلومبرغ، والمعروف عنه أنه مدافع عن السياسة الإسرائيلية، مقال رأي في الخامس من مارس الجاري عبر صحيفة النيويروك تايمز، قال فيه إن نتنياهو يقترب من كارثة، وإن الإصلاح القضائي المزعوم قد يهدد الأمن والاقتصاد والديمقراطية التي على أساسها تم بناء البلد.
وفي الشهر الماضي، قامت منظمات يهودية مثل "الاتحاد اليهودي في أميركا الشمالية"، والذي يقوم بجمع نحو 3 مليارات دولار سنويا وإرسالها لإسرائيل، ولا يتدخل عادة في شؤون السياسة الإسرائيلية، بإرسال رسالة إلى نتنياهو وزعيم المعارضة يائير بيد، بدا فيها الاعتراض واضحا على محاولات إضعاف النظام القضائي في إسرائيل.
بعد نحو شهرين من انتخاب نتنياهو، لم تتم دعوته لزيارة البيت الأبيض.. هل تكفي هذه إشارة لحال العلاقات الأميركية الإسرائيلية؟
المؤكد أن هناك أحاديث سرية أكثر خطورة تتعلق بتوجهات إسرائيل نحو آسيا وتحالفاتها القادمة مع الصين والمخاوف الأميركية من علاقة بكين بتل أبيب.. وللنقاش حديث آخر بإذن الله.