طويلا جدا غاصت التحليلات السياسية، في مستقبل جمهورية الصين الشعبية، واعتبر قطاع واسع من المفكرين أن الصين هي الوريث الشرعي للقطبية الأميركية، لا سيما في ظل عدة عوامل تجمعت في سماوات ذلك البلد الآسيوي الكبير، من حضور ديموغرافي واسع، ومساحة جغرافية شاسعة، عطفا على فوائض أموال هائلة، ورؤية اقتصادية تسعى لإحياء ملامح العالم القديم، كما الحال مع طريق الحرير، وأخيرا نهضة عسكرية غير مسبوقة في بلاد ماوتسى تونج، من عند حاملات الطائرات في البحار، وصولا إلى نظم الأقمار الاصطناعية في الفضاء، وبينهما تسعى بكين إلى بناء ترسانة نووية، لا تقل خطورة عما لدى الولايات المتحدة وروسيا.
على أن علامة الاستفهام الواجب طرحها في هذا المقام: "هل تكفي هذه الركائز لقيام قطبية صينية جديدة، قادرة على مقارعة نظيرتها الأميركية في الحال والاستقبال؟".
المؤكد أن هناك لطمة كبرى تعرضت لها الصين خلال العامين الفائتين، فقد اكتشف العالم هشاشة النظام الصيني الحكومي تحديدا بل وشموليته التي لم تعد تلائم القرن الحادي والعشرين، وزمن السماوات التي انفطرت.
كلف النظام الصيني العالم الكثير جدا من الخسائر المالية، وملايين الضحايا من البشر، وذلك حين تعاطي مع انتشار فيروس كوفيد-19 باعتبار الأمر سرا من الأسرار العسكرية، وبذلك ضاعت فرصة حصار الفيروس الشائه في موطنه، وقبل أن ينتشر حول العالم.
قبل كوفيد -19، كانت الصين قاب قوسين أو أدنى من إقامة جسور شراكة غير مسبوقة مع القارة الأوروبية، بل إن بعض الدول مثل إيطاليا كادت أن تسلم زمام أمورها لعالم الاستثمارات الصينية دفعة واحدة، على الرغم من غضب بقية دول القارة العجوز.
تنبه العالم لاحقا إلى أن الصين يمكن أن تضحى سببا في الكثير من العقبات الأممية، لا سيما في ظل قدرتها الاقتصادية، ما يعني أن النموذج الأميركي الذي تسبب في الأزمة المالية العالمية عام 2008، بعد المرور بإشكالية العقارات وانهيار بنك ليمان براذر، يمكن أن تتكرر مع الصين، وهذا ما كاد أن يحصل بالفعل مع القطاع العقاري في الداخل الصيني مؤخرا.
في أواخر شهر مايو أيار المنصرم نشرت صحيفة النيويورك تايمز الأميركية، تقريرا مطولا عن أوضاع الصين الداخلية، والتي تحمل على القول إن هناك قلقا داخليا عميقا ينتاب الصينيين، وبنوع خاص الشباب بينهم.. ما الذي يجري على وجه التحديد؟
تقول الصحيفة الأميركية الشهيرة إنه بعد دخول قيود فيروس كورونا الصارمة في الصين عامها الثالث، تزداد رغبة الشباب الصيني بالهجرة خارج البلاد.
والثابت أنه لم تكن كورونا وقيودها وحدها هي السبب في رغبة الشباب الصيني في الهجرة إلى خارج البلاد، بل أنظمة الرقابة الشديدة والمكثفة التي تمارسها الحكومة الصينية، ما جعل عمليات البحث عبر شبكة الإنترنت عن مسارب للهجرة تتسارع بنسبة 440% في شهر إبريل نيسان المنصرم.
هل من اليسير على الشباب الصيني مغادرة البلاد؟
الواقع أن عشرة بالمائة فقط من الصينيين لديهم جوازات سفر، ما يجعل من فكرة مغادرة البلاد مسألة صعبة وعسيرة، وإن جاء الإغلاق الأخير لمدينة شنغهاي الكبرى، ليدفع في طريق بحث فئات مختلفة من الصينيين، عن طريق لمغادرة البلاد.
لا يبدو النظام السياسي الصيني عاملا محفزا على قبول الصينيين كمهاجرين لا سيما في أميركا أو أوروبا، ذلك أن هناك هواجس لدى الحواضن الغربية، وبعضها حقائق، تتعلق بتجنيد الحكومة الصينية لهؤلاء بهدف الحصول على أسرار الغرب، سواء كانت أسرارا علمية أو عسكرية، اقتصادية أو مالية.
الصين الرسمية القلقة، تدرك أن تسهيل خروج الشباب منها أمر لا يصب في مصلحتها، ولهذا تعمل على قمع المغادرين، وهذا ما صرحت به إدارة الهجرة الصينية، إذ أعلنت عن أنها "ستقيد بصرامة أنشطة الخروج غير الضرورية للمواطنين الصينيين".
لم يكن للصين أن تعيش بمعزل عن فكرة القرية الكونية، والتي أضحت لاحقا صندوقا صغيرا، وليس قرية، يتمثل في جهاز الهاتف الذكي، والذي من خلاله يمكن ربط العالم برمته صوتا وصورة، غير أن السلطات الصينية برعت في تحويل هذا الصندوق إلى إطار من القيود المكبلة للخصوصية وكذا للحريات، ما عزز الرغبة في الهجرة لدى الشباب الصيني.
لا يتعلق قلق الصين بجانب هجرة الشباب فحسب، فهناك جانب آخر موصول بالاقتصاد، وقد لفتت إليه مجلة الفورين بوليسي الأميركية الشهيرة بدورها، والتي تقطع بأن فكرة صعود الصين إلى قمة العالم وتسنمها أعلى وضع اقتصادي أمر أبعد ما يكون عن الحتمية التاريخية، بل على العكس من ذلك فإن تباطؤا اقتصاديا طويل الأجل آخذ في الظهور، وبات يخيم على أجواء الاقتصاد الصيني في الآونة الأخيرة.
يلاحظ المرء أن هناك نسبة ما من الحقيقة في قراءة الفورين بوليسي، وليس أدل على ذلك من أزمة النقص في الكهرباء التي ضربت الصين العام الماضي، ما دفعها إلى العودة لاستخدام الفحم الكربوني مرة أخرى، رغم تعهداتها بمحاربة التلوث المناخي، والالتزام بمقررات ومقدرات مؤتمر غلاسكو للمناخ العام الماضي.
يبدو الاقتصاد الصيني محاطا بعوامل عدة تتهدده، منها التأثيرات الكارثية لجائحة كوفيد-19، تلك التي أفقدت الكثير من دول العالم الثقة في قيام الكثير من صناعتها على أراضيها، بسبب رخص اليد العاملة.
أضف إلى ذلك تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا، ومشاكل الطاقة العالمية، وأزمات سلاسل التوريد، وهذا بجانب السياسة الصينية التجارية عينها.
نجحت الصين الأسبوع الماضي في تجنب ما اعتبره الكثيرون فخا نصبته لها الولايات المتحدة الأميركية في تايوان، ومن خلال زيارة نانسي بيلوسي.
غير أنه وفي كل الأحوال نجاح مؤقت، فقد بات مطلوبا من الحزب الشيوعي الصيني الحاكم أن يظهر حسما وحزما في عيون مليار ونصف صيني تقريبا، في مواجهة واشنطن، وإلا سوف تهتز صورة شين جين بينغ في الانتخابات الرئاسية القريبة.
هل لهذا الصين قلقة بالفعل؟
ربما هناك ما يخيفها أكثر من خلال تحالفها مع روسيا، وهو ما لا يظهر على سطح الأحداث... هل من مزيد؟
إلى قراءة قادمة بإذن الله.