بقلم - إميل أمين
هل من علاقة عضوية بين الثقافة والإعلام؟ علامة استفهام تطرح ذاتها بقوة في الحال، وتلقي بأثرها على المستقبل، لا سيما وأن المفهومان قريبان، وعند البعض متلاصقان وأحياناً متشابهان، غير أن واقع الحال يشير إلى وجود هامش من الاختلافات طبقاً لطبيعة كل منهما، ومنشأه ووجوده وتاريخه. من استبق الآخر الثقافة أم الإعلام؟ يمكننا القطع بأن الثقافة هي المعين الأكبر والأعمق لكافة وسائل الإعلام، والتأصيل لكلمة ثقافة يقودنا إلى فهم إدراكي حقيقي لماهيتها ودورها في الحياة العامة.
عند أصحاب اللغة العربية جاءت كلمة ثقافة من «ثقف»، ويقال «ثقف الرمح» أي سواه وقومه، وجعله صالحاً للاستعمال، وفي اللغات الأجنبية يبقى الأصل اللاتيني لكلمة هو kultur أي إصلاح الشيء وتهذيبه، ومن هنا جاء فعل (يزرع) «agriculture» أي إصلاح الأرض وزراعتها. يعني هذا أن فعل الثقافة، قائم في جميع مناحي الحياة من قيم وعادات، أخلاق وتقاليد، لغات وأفكار، وعليه يرى علماء الاجتماع أن الثقافة حقا تجول من حولنا ونحن في وسطها، فآداب المائدة ضرب من ضروب الثقافة، وأخلاق الاستهلاك والادخار ثقافة، والمذاهب الإيمانية والعقائد الروحية ثقافة، كذا الموسيقى والشعر، وكل ما يتصل بحياة الإنسان من أدوات تعينه على العيش هي ثقافات شعوب، عرفت بها، وحاولت في بعض الأوقات تصديرها للعالم. نخلص من هذا التعريف المختصر بغير إخلال للمعنى أن فعل الثقافة بطيء ولكنه مستمر ومتطور، بل ومتحول من جيل إلى جيل، ومن أمة لأخرى، بفعل تطور الحياة وأساليبها، ومبتكرات الإنسان وأدواته.
على أن الإعلام لم يكن بعيداً عن الثقافة، ذلك أنه القناة التي يعبر بها عن فحوى ومضمون الرسالة الثقافية بدءا من العصور الأولى، وصولاً إلى انفجار وسائل الإعلام المختلفة، ووسائط الاتصال الاجتماعي الحديثة، والإعلام إيقاع سريع، وأدواته أكثر سرعة ومواكبة للتكنولوجيا فما بين زمن اكتشاف التلغراف إلى أوان الفيسبوك والانستجرام جسر واسع من التطورات والتغيرات، باتت تطرح تساؤلاً مثيراً: من يقود الآخر اليوم: «هل التوجهات الثقافية والمنحنيات الفكرية هي التي تمسك بقبضة الإعلام وآلياته، أم أن وسائل الإعلام هي التي باتت تشكل النخب الثقافية، وترسم المنحنيات الفكرية، وتعمق الجذور الرؤيوية للقضايا الفكرية أو تسطحها؟».
يبدو أن علامة الاستفهام المتقدمة قد داعبت عقول كثيرين حول العالم، وشغلت تفكير المؤسسات الثقافية الدولية لاسيما «اليونسكو»، وعليه، فقد قام المؤتمر العالمي بشأن السياسات الثقافية، والذي دعت إليه منظمة اليونسكو(منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) عام 1982 في المكسيك واشتركت فيه غالبية الدول العربية بتحديد طبيعة الصلة بين الإعلام والثقافة كما يلي: الاتصال هو أحد العناصر المكونة للثقافة لأنه مصدر تكوينها وعامل من عوامل اكتسابها وتراثها، وأنه يساعد على التعبير عنها ونشرها». والشاهد أنه في ظل هذا التعريف يمكن القطع بأنه لا يمكن تصور قيام ثقافة، بدون قدرة على التعبير عن مكنوناتها وفحواها، والإبلاغ عنها، بمعنى إيصالها للناس، إذ لا حظ لأي ثقافة عند أي شعب من الشعوب، إذا لم تكن هناك أجهزة إعلام تؤازر جهودها وتدعم روادها وتشيع أفكارها.
جدلية وتبادلية العلاقة تبتدي كذلك على الجانب الآخر، أي علاقة وحاجة وسائل الإعلام للثقافة والمثقفين، بمعنى أنه حال خلت الساحة الإنسانية من صناع الأفكار، ومن الطروحات الفكرية العميقة، بل حتى من الجدالات الرؤيوية والاستشرافية المستقبلية، لأصبحت وسائل الإعلام «نحاسا يطن أو صنج يرن»، فالثقافة العميقة والرصينة، هي الزاد الذي يشد الجمهور إليها، وحال غيابها يفرغ مضمونها مما هو نافع ومفيد. هل أفاد الإعلام من الثقافة شيئا ما؟ الجواب الصريح والمريح أنه أفاد كثيراً جداً، ذلك أن كافة الآليات الإعلامية والأدوات المستخدمة فيها سمعية كانت أو بصرية، مقروءة أو مسموعة، عطفاً على الوسائل التي تحفز على التفكير والتدبير وأعمال الخيال، وتجويد القريحة وخلق الابتكارات جميعها من أدوات الثقافة ومن خلقها.
*كاتب مصري