بتأسيس المملكة العربية السعودية، للمنتدى الدولي للأمن السيبراني، والذي أعلن عنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في الأيام القليلة المنصرمة، تكون البلاد قد خطت خطوة مهمة وواثقة، في طريق تعزيز ريادتها وسيادتها في هذا المجال، والذي بات حيويا وضروريا بصورة لا غنى عنها لكافة الدول الكبرى، عطفا على ما لهذا المنتدى من دور في فتح آفاق رحبة لنقل المعرفة وتبادل الخبرات، بجانب استكشاف فرص التعاون في قطاع الأمن السيبراني، على الصعيدين الإقليمي والدولي .
يأتي هذا المنتدى، ليترافق مع مبادرات طموحة للمملكة في قطاعات التكنولوجيا المختلفة، وقد كان آخرها الترخيص لمنطقة اقتصادية خاصة للاستثمار في الحوسبة السحابية، والتي تعنى بتوفر موارد تقنية المعلومات حسب الطلب عبر الشبكة العنكبوتية، وذلك في أواخر مايو أيار الماضي، ويتوقع أن تسهم تلك المنطقة في جذب استثمارات مباشرة أجنبية ومحلية بمقدار 13 مليار دولار إلى قطاعي التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.
ولعله من نافلة القول إن قضية الاهتمام بالأمن السيبراني، باتت مسألة ملحة وضرورية، واجبة الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، سيما أن العالم بأسره أضحى شبكة متصلة من البيانات والعمليات الرقمية، تداخلت فيها الخيوط وتشابكت الخطوط، ولم تعد هناك رفاهية الانفصال عما يجري في بقية أرجاء العالم، فقد انتقل البشر من زمن القرية الكونية الصغرى، تلك التي تحدث عنها عالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان، في ستينات القرن الماضي، إلى عالم "صندوق الدنيا"، المتمثل في الهاتف الذكاء النقال في عالم الاتصالات المعاصرة، والتساؤل مفتوح على مصراعيه، عما سيكون حال ومآل البشر في زمن الميتافيرس عما قريب من جهة، ناهيك عن القضايا السيبرانية التي ستطرأ في الغد المزدحم بالذكاء الاصناعي، وبعد الغد حيث الذكاء الفائق ينتظر الجميع.
تبدو شبكات التواصل الإلكتروني هي من يقوم بالتحكم في دفة غالبية الأنشطة الإنسانية في حاضرات أيامنا، من شبكات الدفاع إلى وحدات الهجوم في عالم العسكرية والحروب، ومن عند بورصة الأوراق المالية، وصولا إلى مجالات السفر والانتقال برا وبحرا وجوا.
ومن غير تطويل ممل، يمكن القطع بأن مسألة الأمن الخاص بالمعلومات المنتقلة عبر الأثير، هي المقدمة لشكل الحياة الأخرى على الأرض في القرن الحادي والعشرين، والمغايرة لما جرت به سبل الحياة طوال القرن الغابرة.
على أنه وإن كانت الحياة البشرية في ظل الثورة السيبرانية، تفتح أمام البشر دروبا لإنسانوية أرقى، وسبل معالجة للإشكاليات المعاصرة بطرق أفضل، إلا أنها وفي الوقت عينه تضع الجميع أمام تحديات خطيرة ومقلقة، لا سيما إذا تم تسخيرها كأدوات للشر، الأمر الذي أدى إلى ظهور قناعة عند عدد وافر من الاستراتيجيين العسكريين بنوع خاص، تفيد بأن العالم السيبراني سيكون فضاء حروب الجيل الخامس، وهو أمر مخيف حقا.. لماذا؟
لعل القارئ المتابع لأفلام الخيال العلمي، يدرك اليوم أن المشهد تجاوز الشاشة الفضية، إلى الواقع العملي، ولم تعد مناظر استيلاء بعض الإرهابيين على مطار عالمي يتطلب القوة المسلحة، والدخول عنوة عبر البوابات، تحت تهديد السلاح.
يكفي الأمر اليوم، مجموعة من الشباب الذين لهم دراية سيبرانية عالية، بالدخول إلى الشبكات الإلكترونية التي ترسم مسارات ومدارات الطيران العالمي لهذا المطار أو ذاك، وتحويل بعضها عن دروبها الواقعية، وتحريف البعض الآخر إلى خطوط وهمية، ليحدثوا أكبر كارثة جوية في تاريخ العالم.
ولعلنا لا نغالي إن قلنا إن تهديدات الحقبة الزمنية القائمة والقادمة، ستكون من جراء الصراعات السيبرانية على البنى التحتية في الدول المقابلة في حالات الحروب، ومن غير الحاجة إلى مواجهة الجيوش بشريا على الأرض، إذ يكفي ومن أسف شديد تعطيل محطات توليد الطاقة الكهربائية، لتعجز دولة بأكملها عن الحياة.
من أفضل العقول المفكرة الدولية التي طرحت أهمية التعاطي مع موضوع الأمن السيبراني حول الكرة الأرضية، البروفيسور الأميركي جوزيف ناي، صاحب رؤية "القوة الناعمة"، وعنده أنه بين القوى التي تشكل العناصر المحركة الرئيسية في عالم اليوم، الجماعات غير الأممية، أي التي ليست بدول، الصغيرة في عددها، لكن القادرة على العمل في العالم الافتراضي.
تابع العالم عبر العقد الماضي بعض الحالات التي جرت فيها اختراقات سيبرانية، كما الحال مع جوليان اسانج صاحب ومؤسس موقع ويكليكس، وإدوارد سنودن عميل هيئة الأمن القومي الأميركي NSA وكلاهما كبد الولايات المتحدة الأميركية خسائر غير محدودة على الصعيدين الأدبي المعنوي من جهة، والمادي العسكري والاستخباري على الأرض من جهة ثانية.
لا يقتصر مجال الأمن السبراني على سياق الحروب والمواجهات المسلحة، سيما أن العديد من المجابهات في عالم القرن الحادي والعشرين وما يليه، مرتبطة بالحصول على المعلومات والبيانات ذات الصبغة الاقتصادية، فالشعوب تمشي على بطونها، وليس الجيوش فقط كما قال نابليون بونابرت في القرن الثامن عشر.
خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر الصراع بين واشنطن وبكين، والذي هو اقتصادي في جوهره ومظهره، فكلاهما لا يود الوصول إلى حافة الهاوية والصدام عبر النار والبارود بل من وراء الكواليس تجري الاختراقات السيبرانية بهدف الحصول على بيانات الصفقات والمنتجات، وهو الأمر الذي تبرع فيه الصين اليوم عبر تجسسها السيبراني، محاكية ما فعلته اليابان في سبيعنات وثمانينات القرن الماضي، حين كانت تبدأ من حيث انتهت مكتشفات ومخترعات أميركا، ومن غير، عناء البدء من النقطة صفر.
ينتظر السعودية في ظل رؤية 2030 بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، دور عالمي خلاق على كافة المستويات، ولهذا كان لابد من هذه المنتدى الذي يعد خطوة بارعة على خارطة الأمن الشطرنجي السيبراني العالمي إن جاز التعبير.