للعام الثاني على التوالي، تسرق سلطات الاحتلال الإسرائيلي البهجة من الأرض المقدسة، التي لم تعد تستشعر فرحة الميلاد كما جرت العادة منذ ألفي عام، بعدما بات الحزن يطبع على كل دروب المدن التاريخية هناك، من بيت لحم، مروراً بالناصرة، وصولاً إلى القدس.
غابت الفرحة، وانمحت الابتسامة من وجوه «البيت لحميين»، كما اختفى السياح من الطرقات، وبدت ساحة المهد موحشة، بسبب إطباق قوات الاحتلال على المدينة التي أضحت قلعة عسكرية، بعدما عرفت بكونها مدينة للسلام.
الاحتلال يقطع أوصال فلسطين في صبغتها المسيحية، وكأن الأمر مقصود به تفريغها من أحد مكوناتها التاريخية، بالضبط كما يجري تهويد القدس، عبر طرد سكانها، لا سيما بعد أن بات الوصول من رام الله، القريبة، إلى بيت لحم، رحلةً شاقة من المذلة والعذاب، على طرقات مملوءة بنقاط التفتيش والحواجز هناك؛ حيث تراق كرامة صاحب الأرض الأصلي.
القدس بدورها حزينة، لم تنصب بلديتها شجرة الميلاد الشهيرة عند «الباب الجديد»، أحد أبواب المدينة التي تبُعد ثمانية كيلومترات عن بيت لحم.
لا طعم للفرحة في بيوت المقدسيين ولو وضعوا مغارات رمزية في دورهم؛ فرحتهم مسروقة، وقلوبهم مكسورة، ودموعهم ثخينة تملأ أعينهم.
الشرطة الإسرائيلية مذعورة، لا سلام في القلب، ما يجعلها لا توفر الاعتداءات على سكان القدس وسياحها دفعة واحدة، ما أفرغها بدورها من زائري الأماكن المقدسة.
سيناريو تهجير سكان بيت لحم والقدس والناصرة وغيرهم، ماضٍ قدماً، فخلال 14 شهراً تركت نحو 500 عائلة فلسطينية مسيحية بلدة الميلاد العذراوي، ما يعني أنه من القريب جداً أن تضحي بيت لحم من غير حضور مسيحي فلسطيني، وليس ببعيد في الزمن المنظور أن تختفي كنيسة المهد، وتضحي أثراً بعد عين.
التهجير في بيت لحم يمتد إلى سكانها المسلمين كذلك، وبنوع خاص وسط شبابها، فما من مستقبل في ظل احتلال يقتل البهجة في الصدور، ويمنعهم من أن يتنفسوا الرجاء.
يوماً تلو الآخر يصبح الأمل أكثر إيلاماً، والخشية أن يأتي «الكريسماس» المقبل ليواجه الفلسطينيون شبح ضم الضفة الغربية بالقوة الجبرية، كما يتوّعد عدد وافر من الساسة الإسرائيليين.
التاريخ يُعيد نفسه بعد ألفي عام، «الطفل في المغارة، وأمه مريم، وجهان يبكيان»، والحقيقة أنه ليس الطفل وأمه فحسب مَن يذرفان الدموع، ولكن أهل فلسطين المجروحة، لا سيما في غزة المصلوبة بدورها منذ أربعة عشر شهراً.
مريم التي لم تجد لها مكاناً في الفندق، في زمن أوغسطس قيصر، وحين كان كرنيليوس والياً على سوريا، وهيرودس حاكماً في اليهودية، ستفاجأ اليوم لو عادت؛ حيث هناك نحو 57 فندقاً في بيت لحم بسعة عشرة آلاف غرفة فندقية فارغة مهجورة، فقد أغلقت جميعها أبوابها منذ بداية العدوان على غزة، وحتى الساعة.
بيت لحم تؤدي الشعائر الدينية الطقسية حسب «الأستاتيكيو» التقليدي، لكن من غير أهازيج الفرحة، بعدما فقد الناس أرزاقهم، الأمر الذي بدّد أهازيج الفرحة، وأزاح زينات الميلاد، وقطع استعراضات الحركة الكشفية، وكيف لهم أن يفرحوا وصوت البكاء والعويل في غزة يسمع في بيت لحم والرامة!
الألم الفلسطيني المجرد، ومن دون أدنى نزعة عرقية أو طائفية، تجاوز حدود فلسطين، ومسّ شغاف القلوب الأمينة، ولا نغالي إن قلنا إنه قطع نياطها.
نهار الجمعة الفائت، وخلال استقباله لأفراد «الكوريا الرومانية»، أي «حكومة البابا»، أدان البابا فرنسيس القسوة البالغة من الجانب الإسرائيلي التي أدَّت إلى مقتل عشرة من أطفال غزة من عائلة واحدة في مجزرة بحق عائلة «خلة»، بعد استهدافهم بقصف جوي في جباليا النزلة. أيُّ نَفْس سوية تفعل هذا، وكأن هيرودس يعود من جديد، ليقتل أطفال بيت لحم مرة جديدة.
الفقير وراء جدران الفاتيكان، يتصل هاتفياً السابعة مساء كل يوم، منذ بداية الحرب مع أطفال غزة، لدرجة أنهم باتوا يعتبرونه فرداً من العائلة الفلسطينية، ولا ينفك يناشد المجتمع الأممي المصاب بـ«سكتة إيمانية ووجدانية»، ولهذا أخرجت له هوليوود فيلماً حمل عنوان «الكونكلاف»، لكي يظهر الفاتيكان والأمراء من الكرادلة، كأنهم جماعة من اللصوص والفاسقين الزناة والسراق.
مَن يبشر «البيت لحميين» والمقدسيين والغزاويين بالسلام الذي بَشّرت به الملائكة ليلة مولد المسيح، ومَن يُخبر الإسرائيليين بأن السلام الحقيقي يولد فقط من قلب متجرد من القلق والخوف من الحرب.
فلسطين بحاجة إلى سلام حقيقي ودائم لا يتوقف عند مراوغات الاتفاقيات، أو على طاولة أنصاف الحلول الإنسانية، فمن حق أهلها مستقبلٌ كله رجاء، يؤمن بكرامة العنصر البشري.