بقلم - إميل أمين
وقت ظهور هذه السطور للنور تكون الأمة الأميركية في طريقها للاستيقاظ وعلى موعد مع المجهول، ذلك على الرغم من أنه اليوم الذي كانت فيه عادةً تبتهج وتفرح لتنصيب رئيس جديد للبلاد والعباد، يقود المسيرة الديمقراطية، ويكمل الدور الاستثنائي لأرض كنعان الجديدة حسب وصف الآباء المؤسسين.
الناظر إلى حفل تنصيب الرئيس السادس والأربعين هذا الصباح، سوف يدرك أن غيوماً سوداء كثيفة تحلّق فوق سماوات البلاد، تبدأ من عند واشنطن العاصمة التي هجرها سكانها، لا سيما بعدما أضحت ثكنة عسكرية، وربما من عبث الأقدار أن تُقسَّم واشنطن إلى مناطق حمراء وأخرى خضراء، كأن المرء في بغداد أو غيرها من عوالم وعواصم الاضطرابات الأهلية.
ما الذي يجري؟ وإلى أين يمكن أن تمضي مقدرات الأحداث؟
بدايةً ومن جديد، فإننا نستمطر مراحم السماء على الشعب الأميركي الصديق، ونسأل الله أن يهبه الحكمة والفطنة، ليدرك أن العنف والغضب أمور تختصم من أهمية أميركا حول العالم، وأنه لا طائل من ورائها، وأن توحيد الأمة هو الأمر المهم في هذا المرحلة المفصلية، لتظل أميركا في عيون العالم وعن حق، النموذج اليوتوبي للديمقراطية، رغم أخطائها وإشكالياتها.
على أن واقع الحال في الداخل الأميركي يستدعي العديد من التساؤلات، فواشنطن مع إشراقة فجر جديد تشهد نحو 25 ألفاً من الحرس الوطني، وأعداداً كبيرة من عناصر الخدمة السرية الظاهرة والخفية، الأمر الذي دعا العديد من وسائل الإعلام الأميركي لأن تستخدم تعبير «تنصيب على أسنّة الحِراب»، في أدبيات تغطياتها لهذا الحدث الجلل.
هل الخطر محدق بالرئيس الذي يتم تنصيبه، أم بكبار المسؤولين الأميركيين؟
يمكن القطع بأن هذا وأولئك واقعان أول الأمر في دائرة الخطر البادية للعيان، لكن ما يتوافر من معلومات حتى الساعة، وما يخفى عن العيون، قد يؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية برمّتها تواجه لحظات عصيبة، لم تشهدها منذ عقود طوال، ربما ترجع إلى وقت مارتن لوثر كينغ في أوائل ستينات القرن الماضي.
التقارير الأميركية التي توافرت حتى كتابة هذه السطور حقاً مزعجة، فعلى الرغم من أن الآلاف من جنود الحرس الوطني يحيطون بدرج الكونغرس وينتشرون على طول المسيرة التقليدية التي تصل إلى البيت الأبيض، فإن هؤلاء أنفسهم باتت الشكوك تخيّم عليهم، وتسارع الأجهزة الأمنية المختلفة إلى التحقق من ولاءاتهم، فالخوف كل الخوف من حدوث اختراق أمني داخلي من هؤلاء، وساعتها يمكن أن تكون واشنطن وأميركا برمّتها في مواجهة القارعة.
المخاوف هذه المرة جدية، ورغم أنه قد لا يرى العالم جماهير غفيرة في هجوم مماثل لما جرى في الكونغرس نهار السادس من يناير (كانون الثاني)، فإن ما يتسرب من أخبار حتى الآن عن تواطؤ بعض من رجال أمن الكونغرس، أو من شرطة العاصمة ويبلغ عدد المشتبه بهم نحو 29، أمر يعطي إشارات حمراء بأن الخطر قريب ومحدق، وإذا ما تأكد أن نواباً من الكونغرس -جمهوريون غالب الأمر- قد قادوا في اليوم السابق للهجوم على قلعة الديمقراطية الأميركية عدداً من مرشدي المتظاهرين داخل الكونغرس، فإننا هنا نَضحى أمام مؤامرة أوسع وأخطر مما يظن المرء.
ليس لأجهزة المباحث الاتحادية الأميركية، ولا الاستخبارات العسكرية أو غيرها من الجهات المعنية مصلحة في التهويل من شأن الأحداث، فهذا يضر بسمعة أميركا التي تعرضت بالفعل في السنوات الأربع الأخيرة لهزات عنيفة، ولهذا تبدو هناك مصداقية عالية للمخاوف.
كارثة ما يجري في أميركا، على خطورته الأمنية، يضعها أمام تساؤلات عالمية، لا سيما بعد أن لجأت إلى قواتها المسلحة لإدراك الأمن وبسط سلطة الدولة وهيمنتها عبر قواتها المسلحة، الأمر الذي أنكرته طويلاً جداً على العديد من دول العالم، لا سيما دول الشرق الأوسط، تلك التي عانت في زمن الفوضى غير الخلاقة، وخلال مسارات ومساقات الربيع العربي المغشوش، وبعد أن ساندت القوات المسلحة شعوبها العربية من أجل الحفاظ على الأمن وحماية الأرواح والممتلكات.
استخبارات أميركا المعروفة والخفية، لا سيما تلك التي تراقب الغرف الخلفية في عالم الإنترنت، حيث المساحات السوداء لعالم الجريمة والجماعات الميليشاوية، وقر لديهم خطورة ما يحدث في أميركا هذه الأيام، والدعوات لانطلاق حرب أهلية، وانفصال ولايات مثل كاليفورنيا وتكساس، ويكفي لتأكيد مصداقية هذه التحذيرات، ظهور عَلَم الكونفيدرالية في مظاهرات الكونغرس، والكشف عن وجود جنود وضباط حاربوا في أفغانستان بين صفوف المحتجين، ما يعني أنهم مؤهلون لأعمال عسكرية كمحترفين، والبعض يتحدث عن أسلحة وُضعت في فنادق العاصمة.
هل أميركا اليوم أمام استحقاق تساؤل جذري عن المفاضلة بين الحرية والأمن؟
منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، لم يقدّر لأميركا أن تَعبر إلى الثاني عشر منه، والجميع يتطلع إلى خطاب الرئيس بايدن، عسى أن يجمع شتات الأمة القلقة.