بقلم - إميل أمين
خلال الكلمة التي وجّهها الرئيس الأميركي المنتخب جوزيف بايدن إلى الأمة الأميركية بمناسبة عيد الشكر، نهار الأربعاء المنصرم، استمع الأميركيون والعالم برمته إلى رؤيته التي تقضي بضرورة رأب الصدع بين الأميركيين، عطفاً على تصريحه بأن أميركا جاهزة لقيادة العالم، وأنها تصبح أكثر قوة حين تعمل مع حلفائها.
وفي وقت سابق حين قدّم بايدن بعضاً من أفراد إدارته المرتقبة، أكد نفس المعنى، مشيراً إلى أن فريقه يعكس عودة أميركا من جديد، ولا سيما بعد أن جعلها الرئيس ترمب منعزلة ووحيدة، وأن أعضاء الفريق سيعيدون بناء الروح المعنوية للولايات المتحدة ويبثون التفاؤل لدى الحلفاء، وربما المصطلح الوحيد الذي خشي بايدن من الاقتراب منه، هو تعبير «أميركا مدينة فوق جبل»، الذي يمثل عمق الإيمان الرؤيوي للدور الأميركي حول العالم.
بداية نتمنى لإدارة الرئيس بايدن كل التوفيق، وأن تكون إدارة تصالحية وتسامحية في الداخل والخارج، غير أن واقع الحال يستدعي التساؤل عما إذا كانت هذه الإدارة تمتلك حجر الفلاسفة الذي يجيب عن التحديات الداخلية والخارجية كافة، أم أن حلم قيادة العالم يتجاوز الطرح اليوتوبي، إلى تنفيذ المخطط الاستراتيجي الأميركي، وإن كان بأدوات مغايرة عن أدوات الرئيس الذي خرج عن خط الهيمنة الأميركية المطلوب والمرغوب... ماذا نعني بذلك؟
خلال حديث عيد الشكر توقف بايدن عند فكرة ترجع إلى أواخر تسعينات القرن الماضي، إذ أكد أن القرن الحادي والعشرين يتوجب أن يكون قرناً أميركياً.
كلمات بايدن هي رجع صدى لوثيقة القرن الأميركي التي بلورها المحافظون الجدد عام 1997. وكان ولا يزال الغرض منها صبغ العالم بصبغة أميركية، وقطع الطريق على القطبية الصينية القادمة، ومنع القيصر الروسي من استرداد قطبيته القائمة بدرجة أو بأخرى.
ومع ذلك وبعيداً عن التفكير الذي يراه البعض تآمرياً للتاريخ، في حين أنه استراتيجيات مرسومة ومدروسة، أهدافها لا تغيب عن أعين واضعها، وإن لم يقدر له الوصول إليها بالسير في خطوط مستقيمة، فإنه يلتف من حول التضاريس المانعة، ويدور ربما مع الزمان، ليصل إليها في نهاية المشهد، نقول بعيداً عن ذلك ومع افتراض حسن النية عند بايدن وفريقه، يبقى التساؤل؛ هل الإدارة القادمة، وبما يحيط بها من صخب قد يؤثر بشكل أو بآخر على مشروعيتها، قادرة على قيادة العالم؟
بداية ومن غير تطويل ممل، فإننا نرى بايدن، وقد تحدث طويلاً عن الداخل الأميركي، وحاله اليوم يغني عن سؤاله، ولا سيما أن القضية عميقة جداً، وأبعد ما تكون عن مجرد سباق انتخابي.
ربما يدرك بايدن وإدارته أن هناك شرخاً حدث في جدار النسيج المجتمعي الأميركي، ذلك أن الأميركيين اليوم في انشقاق داخلي بين فريقين؛ الأول ضد الثاني، والأخير يحمل أحقاداً هوياتية ضد الأول.
الفريق الأول هم أصحاب العنصر الأبيض الأنغلوساكسوني البروتستانتي، أولئك الذين يطلق عليهم «الواسب»، والذين يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق الإلهي في أرض كنعان الجديدة أو أرض الميعاد الثانية.
والفريق الآخر هم الذين يعرفون بالجاكسونيين نسبة إلى الرئيس أندرو جاكسون، الرجل الذي أثار شغباً فكرياً واسعاً ولا يزال، من حيث رفض فكرة أميركا بوتقة الانصهار أو حساء الطماطم، والقول بأن أميركا فسيفساء من مكونات مختلفة، وأنه ينبغي النظر إليها بوصفها صاحبة العرقيات المختلفة.
هذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه ويجابه إدارة بايدن وهي ترى أن الفارق بين الذين صوتوا له، ومن اقترع لصالح ترمب، فارق ضئيل يعكس مدى التمذهب والتحزب العقدي والعرقي وليس السياسي فحسب.
والثابت أنه قبل كلمة عيد الشكر وخطاب التعيينات الجديدة في ديلاوير، حاول بايدن عبر مجلة الفورين بوليسي في عددها الأخير، أكتوبر (تشرين الأول)/ نوفمبر (تشرين الثاني)، مشاغبة الأميركيين والعالم عبر مقال يحمل نفس العنوان: «لماذا على أميركا أن تقود من جديد؟».
العنوان يحمل فكرة التنبؤات التي تسعى لفتح مساراتها وتعبيد مساقاتها بنفسها، وكأنها حقائق جامعة مانعة وما على العالم سوى التعاطي معها، بل ربما الرضوخ لها.
في سطوره خلط بايدن بين القوتين، الناعمة والخشنة، لإظهار أميركا بأنها وحدها القادرة على تحقيق الحلم اليوتوبي ولو بالتعاون مع الحلفاء، معتبراً أنه يقع على عاتق الولايات المتحدة أن تقود الطريق، إذ لا توجد – حسب تعبيره – قوة أخرى لديها هذه القدرة.
حسناً كتب الرئيس المنتخب بايدن، لكن محامي الشيطان يقفز من بين سطوره متسائلاً: «كيف لأميركا أن تقود العالم من جديد بعد إتمام انسحابها من معاهدة الأجواء المفتوحة، ومن قبلها الانسحاب من معاهدة القضاء على الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، وكذلك من منظمة اليونيسكو، ومن مجلس حقوق الإنسان التابع لهيئة الأمم المتحدة، ومن شراكة المحيط الهادي؟».
عيّن بايدن وزير خارجية أوباما السابق، جون كيري ممثلاً خاصاً لشؤون المناخ، وجيد فعل الرجل، لكن الحقيقة تقتضي البحث فيما إذا كانت الإدارة القادمة قادرة على الوقوف في وجه جماعة الكربون في الداخل الأميركي، وهل يمكن العودة إلى اتفاقيات المناخ، ولا سيما اتفاق باريس، ما يعني التأثير على الصناعات الأميركية القائمة على هذا النوع من الوقود الأحفوري.
تتحدث السيدة ليندا توماس غرينفيلد، المرشحة كمندوب لدى الأمم المتحد عن «عودة التعددية القطبية والأدوات الدبلوماسية إلى سماء واشنطن»، وهذا خطاب تنظيري جيد، لكن ألا يتعارض ذلك مع الرؤية الفوقية لبايدن عن قيادة أميركا لما سماه من جديد العالم الديمقراطي الحر...
الخلاصة... فكرة الجاهزية الأميركية لقيادة العالم تبدو مشكوكاً فيها.