ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم

 العرب اليوم -

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم

بقلم - نديم قطيش

يمتدح اللبنانيون أنفسهم، وهناك من يمتدحهم في العالم، بوصفهم أصحاب ثقافة مرنة نابضة بالحياة. فالبلد دائم الوقوف على مفترق طرق الأمل واليأس، وعلى الرغم من ذلك، يتعايش صمود اللبناني مع الانقسام المستمر لمجتمعه ودولته.

     

 

             

 

البلد الآيل للسقوط لا يسقط تماماً. لم يعرف لبنان طوال حربه الأهلية حجم الأهوال التي عرفتها سوريا في فترة أقل. ولا مر عليه ما يمر على الليبيين والسودانيين هذه الأيام من تشظٍ كامل للعناصر الأولية للدولة. وإذا نهض يصنع لبنان شيئاً يشبه المعجزة، كما حصل إبان حقبة الراحل رفيق الحريري، وفي سنوات معدودات، قبل انطلاق مشروع التغول عليه وقتله في ختامه.

باتت سردية «طائر الفينيق»، إذاك، أقوى الخرافات المؤسسة للهوية الوطنية اللبنانية. كأن قدر اللبنانيين هو الاحتراق حتى الرماد ثم النهوض بأجنحة من نور وألق. بيد أن مشكلة لبنان وشعبه هي هنا تماماً. أزمتهما في هذا التصور عن الذات الذي يسمح للذاكرة اللبنانية بهضم الأحداث والمصائب وكأنها لم تكن.

وعليه، بات التخلص من هذه الثقافة الوطنية معبراً اضطرارياً لإعادة تصور الذات ومعنى الوطن والمستقبل والكرامة، وإن كانت وقائع كثيرة تسندها وتسهم في تأبيدها في الوعي. من الوقائع تلك، أنه وفي ذروة الانهيار المالي والاقتصادي والمؤسساتي، يزدهر قطاع السياحة في لبنان، متجاوزًا كل التوقعات لناحية عدد السياح والرحلات الجوية ونسب توزيع الجنسيات بين الوافدين الذين شكل الأوروبيون أكثر من 40 في المائة من إجمالي عددهم. وكانت حسابات «إنستغرام» اللبنانية تنقل صور المهرجانات والاحتفالات والفعاليات كأن البلاد تعيش أفضل أيام عزّها، وعلى نحو باذخ يتجاوز ما يمكن الحصول عليه في منتجعات «ميكونوس» أو «إبيزا».

على الضفة الأخرى للمشهد اللبناني، شهد مخيم «عين الحلوة»، أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، أياماً من القتال العنيف بين حركة «فتح» والمسلحين الإسلاميين. نزحت مئات العائلات، ودمر ما يصل إلى 400 منزل، عدا عن سقوط 13 قتيلاً وعشرات الجرحى، في اشتباكات تذكر بشكل صارخ بالهشاشة الكامنة وراء نمط الحياة اللبناني.

وما إن هدأ المخيم، حتى عاد القتل السياسي والتوتر الطائفي ليطل برأسه مع حادثة مقتل إلياس حصروني، القيادي البارز في القوات اللبنانية، في بلدة مسيحية جنوب لبنان. أظهرت مقاطع فيديو من كاميرات المراقبة في البلدة أن سيارة الضحية اعتُرضت من سيارات، وسُحبت إلى المكان الذي عثر عليه ميتاً فيه.

وبفارق ساعات، اندلعت في بلدة الكحالة المسيحية، اشتباكات بين الأهالي وعناصر من ميليشيا «حزب الله» كانت تواكب شاحنة ذخيرة انقلبت على الطريق الرئيسية للبلدة، وهو جزء مما يعرف بخط الشام الدولي بين لبنان وسوريا. قتل شخصان في اشتباكات بين الطرفين فيما لا تزال حال الغليان هي السائدة وسط كم غير مسبوق من التصريحات السياسية والشعبية العنيفة ضد الميليشيا.

ازدواجية الحياة هذه في لبنان، وما تستحضره من مدائح تكال للروح اللبنانية، ينبغي أن تكون بمثابة تنبيه صارخ بأن الصمود وحده لا يكفي لمداواة الأمراض القاتلة التي تفتك بلبنان ودولته ونظامه ومستقبله. لم تعد حيوية لبنان المتأصلة وشغف أبنائه بالحياة كافية لدرء التفكك التام للمجتمع والدولة. مرونة اللبنانيين وصمودهم، وأسطورة طائر فينيقهم باتت لب المشكلة اليوم، بسبب قدرتها على تكوين قشرة انتصار تخمد الغضب الحقيقي والإحباط، وتمنعهما من التحول إلى قوة سياسية للتغيير. فما كان مدعاة للفخر بات حجاباً يعمي اللبنانيين عن الاحتمال الحقيقي بأن بلدهم قد يندثر من الوجود، أقله كما عرفوه وأحبوه.

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم، وليتعرَّ اللبنانيون من الأوهام بإزاء حجم الكارثة التي يعيشون في قعر قعرها. فمن دون تحويل الغضب مادة للتعبئة السياسية اللازمة خلف مطالب الإصلاح الحقيقية والجذرية، وأولها التخلص من سلاح ميليشيا «حزب الله» كشرط مسبق لأي تسوية سلمية، فإن البلد معرض لفقدان هويته وكيانه إلى الأبد.

حقيقة الأمر أن الإحساس الزائف بالقدرة على الصمود والنهوض ليس حكراً على لبنان. يعج التاريخ بتجارب مماثلة، مهدت الطريق في بعض الأحيان للزوال التام لمجتمعات ودول. لبنان بهذا المعنى ليس أفضل حظاً من الإمبراطورية الرومانية، على سبيل المثال، التي سبقت سقوطها، حقبة من الاستقرار الواضح والعظمة التي أخفت تحتها عناصر الانهيار والضعف الكامنين. مرونة روما واحتفالية أهلها المستمرة بعظمة سلطتها على الرغم مما واجهته من أزمات وغزوات وصراعات داخلية وفساد، أعميا الكثيرين عن الانهيار الوشيك.

كثيرة هي وجوه الشبه بين الإمبراطورية العملاقة وبين الوطن الصغير.

كما اللبنانيين، المنتصر بعضهم على إسرائيل والمنتصر بعضهم الآخر على المآسي والمظالم، عانى الرومان من فائض الشعور بالانتصار، والإيمان بالقوة الأبدية للإمبراطورية، في حين وفر لهم ما أنجزوه على مر التاريخ شعوراً زائفاً بالمناعة ضد المآلات الكارثية المحتملة، التي كانت تلوح في أفق الإمبراطورية.

وكما سطوة ثقافة الحياة اللبنانية، فإن الهيمنة الثقافية المستمرة للإمبراطورية الرومانية والاحتفال بأمجادها الماضية أخفيا الشقوق المتزايدة داخل أسسها. منع الإيمان بالمرونة الأبدية للإمبراطورية من التنبه للإنذارات المبكرة، تماماً كما تفعل أسطورة طائر الفينيق في الشخصية الوطنية اللبنانية.

كان تدهور الإمبراطورية الرومانية عملية معقدة، تحولت فيها المرونة إلى شكل من أشكال إنكار الواقع، منع الإصلاحات الضرورية والتكيفات التي كان من الممكن أن تحفظ بها عظمتها. سقوط روما العظيمة تذكير قاتم للبنان الصغير بأن الصمود وحده لا يكفي، والرهان الدائم على إمكانات النهوض يخلق حالة مرضية من الرضا عن الذات، تعيق الجهود الضرورية لمواجهة التحديات الأساسية.

لن يستعاد لبنان ما لم يُمحق طائر الفينيق ويواجه اللبنانيون جحيمهم بوصفه جحيماً، لا بوصفه «شدة وتزول».

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم ليذهب طائر الفينيق إلى الجحيم



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 17:12 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة
 العرب اليوم - حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 18:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض
 العرب اليوم - منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

1000 يوم.. ومازالت الغرابة مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:49 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد الأوروبي يؤجل عودة برشلونة إلى ملعب كامب نو

GMT 14:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئاسة الفلسطينية تعلّق على "إنشاء منطقة عازلة" في شمال غزة

GMT 06:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا لـ3 مناطق في جنوب لبنان

GMT 12:26 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت

GMT 13:22 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يناشد البابا فرانسيس التدخل لوقف الحرب

GMT 13:29 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

رئيس دولة الإمارات وعاهل الأردن يبحثان العلاقات الثنائية

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يعلن عن مكافأة 5 ملايين دولار مقابل عودة كل رهينة

GMT 14:17 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نادين نجيم تكشف عن سبب غيابها عن الأعمال المصرية

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تشارك في حفل توقيع كتاب «فن الخيال» لميرفت أبو عوف

GMT 08:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

تنسيق الأوشحة الملونة بطرق عصرية جذابة

GMT 09:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات أوشحة متنوعة موضة خريف وشتاء 2024-2025

GMT 06:33 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صهينة كرة القدم!
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab