بقلم - فـــؤاد مطـــر
لم يحدث من قبل في المجتمع الدبلوماسي في لبنان أنْ بادر سفراء الدول الكبرى وسفراء أوروبيون وإسلاميون وعرب إلى اللقاء وعلى وجه السرعة بسفير دولة عربية غاب ثلاثة أشهر عن لبنان لدواعٍ تتوزع بين الخاص والعام. وما نعنيه بالعام هو التشاور مع مرجعيته في المعضلة اللبنانية المتمثلة في تعجيزٍ من أطراف لتشكيل حكومة غير عادية، وذلك لكي تستطيع معالجة حالاتٍ بعضُها متصلٌ بالجائحة وما تسببت فيه للبنان التعليم والتجارة والصناعة والعمل المصرفي، وبعضها الآخر بكارثة لا سابق لها حتى خلال سنوات الاقتتال الأهلي المتقطع بين منتصف السبعينات وطوال الثمانينات. وتتمثل في انفجار هيروشيمي الشكل، حدث في مرفأ بيروت، وعكس تعامُل أهل السُّلْطة مع تداعياته وبعضها أقرب إلى الويلات والفواجع الأُسرية، انطباعاً أنه تفجير متعمَّد لأغراض في نفوس أكثر من يعقوب واحد، بدليل أن الذين في قمم السلطة تصرَّفوا كما لو أن ما حدث قد حدث وكفى لبنان واللبنانيين ما هو أعظم.
لا تفقُّد لموقع الكارثة. لا تفقُّد للضحايا. لا إعلان يومَ الحدوث كارثةً وطنية. وما هو أكثر خطورة أنْ لا تحقيق فيما جرى ولا تشكيل لجنة طوارئ تستمر تستقصي إلى أن تظهر حقيقة ما جرى. وعندما لاحت في الأفق ملامح الحقيقة فإن هناك من التّف عليها من خلال تخريجات شكلية وتلاشت بذلك الملامح ومعها لحظات من التفاؤل لدى أمهات وآباء وزوجات وفتية وفتيات وأطفال ما زالوا يكابدون آثار الصدمة بكل أنواع الأذى الكارثي الناشئ عن الانفجار الذي يحلم النظام الإيراني الساعي إلى امتلاك السلاح النووي بشكل مشابه للشكل الذي رآه العالم وعدّوه كما لو أنه تفجير نووي.
ومن الطبيعي أن يكون السفير العربي، ونقصد بذلك وليد بخاري، السفير السعودي، قد وجد نفسه وهو في الرياض في وضْع المجيب عن الاستفسار من جانب مرجعيته السياسية الدبلوماسية ومن السعوديين عموماً الذين التقاهم. وكان يوضح ما استطاع إلى ذلك توضيحاً.
هذه الزيارات من جانب سفراء الدول الكبرى وسفراء أوروبيين وإسلاميين وعرب منذ اليوم الثالث لعودته إلى لبنان، تمت في دارة السفير وليس في مقر السفارة، وهذا معناه أن الزائر مكلَّف من حكومته الاستفسار عن حقائق للحالة اللبنانية التي استعصى على إدارات في هذه الحكومة فك طلاسمها، وأن ذلك التكليف يتطلب الإسراع في الرد. ويمكن القول افتراضاً إن جميع الزوار رموز الدبلوماسية الأجنبية والعربية والإسلامية وقفوا على ما يمكن أن يبني عليه هذا السفير أو ذاك تقريره إلى حكومته وفيه ما هو كثير الوضوح.
وأما المرجعيات الدينية، وبالذات المرجعية المارونية في شخص البطريرك بشارة الراعي، والمرجعية السُّنية في شخص المفتي عبد اللطيف دريان، فإن حال كل منهما كانت بمثل حال الدبلوماسية الدولية والعربية والإسلامية توّاقة إلى الوقوف على رؤية المملكة وسماعها من السفير وليد بخاري العائد إلى لبنان بعد أن كانت قد سبقته على مدى أشهر مضت وتواكبت معيشة صعبة وأزمة حكومية عصيّة الحل، طائرات إغاثة ناقلة ضمن حملة الإغاثة من الملك سلمان من الدواء والكساء والغذاء ما يخفّف الوطأة عن الكواهل.
وقد تبدو الزيارتان للمرجعيتيْن عادية من جانب السفير بخاري الذي لطالما اعتاد على القيام عند اشتداد الأزمات بزيارات لافتة لغير الرموز السياسية. لكن الظروف التي يعيشها لبنان جعلت المرجعية الدينية المارونية تسجل اختراقاً جراء العتمة اللبنانية، ويتمثل في دعوة إلى تحييد لبنان، فالمثابرة على التذكير بالدعوة، ثم تطويرها إلى طرْح صيغة المؤتمر الدولي الذي يمكن أن يساند صيغة الحياد للبنان. ومن الجائز القول إن طبيعة الأمور لدى كلٍّ من المرجعيتين اختلفت بعد لقاء السفير بخاري بكل منهما، عمّا كانت عليه قبلها. وزيادة في الافتراض فإن مسيرة التأييد الشعبي لرؤية البطريرك الراعي اكتسبت لمسة تأمُّل في واقع الحال من جانب المرجعية العربية الأهم، مع ملاحظة أن صيغة الحياد للبنان تشق طريقها إذا ما واكبتْها صيغة «اتفاق الطائف»، بل أكثر من ذلك يمكن القول إنه من دون ثبات هذا الاتفاق لكانت صيغة الحياد ستبدو مطلباً تقسيمياً وفئوياً، وهي ليست كذلك على الإطلاق.
هنا يجد المرء نفسه يتمنى لو أن زيارة السفير شملت سائر المرجعيات الدينية حتى التي في نفسها فيض من عدم الودّ. ونقول ذلك على أساس معادلة تقوم على أن صاحب الصدر الأكثر سعة لن يضيره أن يضحّي قليلاً إذا كانت التضحية المعنوية ستحقق كثيراً من وحدة الصف. وفي تاريخ المملكة العربية السعودية لمسات تسامُح كثيرة أثبتت جدواها مع عدد من الدول والمرجعيات العربية، وهي لولا تلك المبادرات المغلَّفة بالتضحية وعدم عدّها تراجعاً لكانت حالات عدم الود وأحياناً العداوة قائمة ولا طرف يتعاطى مع طرف.
وثمة مسألة مهمة في هذا السياق، هي أن لبنان الشعب يعيش مرحلة يتطلع فيها إلى تعديل نوعي في حالته... هذا إذا استعصى التغيير. وهذا اللبنان لا ينحصر في طائفة من دون أُخرى. ولكن هنالك مَن هو قادر على تحديد ما يراه، وهنالك مَن يتطلع إلى مَن يساعدون تعديل ولائه ونظرته لواقع الحال. ومن هنا القول إن بعض التضحية وسِعة الصدر كفيلان بتحقيق ما يُستعصى حتى الآن حدوثه.
ونشير في هذا السياق إلى حالات حدثت ماضياً. بعد الستينات كان لبنان السُّني ناصرياً، وعندما لاحت في الأفق ملامح ضرورات لتعديل الموقف فإنه عدَّل. وكان لبنان الشيعي نصيراً للفلسطينيين وفي عمق التوجه اليساري، ثم عندما حدثت موجبات ضاغطة أو اختيارية أو تشــويقــية لإعـــادة النظر، فإن الأمر لم يستغرق كثيراً؛ حيث انتقل الولاء الشيعي من ضفة إلى ضفة. ووجد الطيف الماروني نفسه تحت وطأة مخاوف من هيمنة معادلة لبنانية سُنية - فلسطينية تؤثر على كينونته، فوضع بعض رموز الطائفة اليد في اليد الإسرائيلية، ثم كان اليوم الذي يُقلق الضمير، فتصحيح جذري بما تم فعله.
القصد من هذا القول إن إعادة النظر هي مسألة من كُنه التقاليد السياسية والحزبية اللبنانية. وحتى مهما بلغ التأثير السوري والشحن المذهبي الإيراني مداه فإن إعادة النظر ليست من المستحيلات، إنما تحتاج إلى براعة مَن يقوم بعملية ترويض ويكون صبوراً ويتحمل أمزجة من بات الشأن العظيم في شخص الواحد منهم مسألة عبادة.
لعلنا في هذه السطور التي حبَّرناها في معنى عودة سفير المملكة العربية السعودية إلى لبنان اكتنفتْه كثرة التفسيرات، ومغزى هذه المسارعة من معظم سفراء الدول الكبرى والعربية والإسلامية الحائرة في أمر لبنان وأين هي نهاية مطافه إلى الوقوف منه على ما يمكن البناء عليه، وكذلك على لقائه مرجعيتيْن دينيتيْن في انتظار وعلى أمل لقاء سائر المرجعيات... لعلنا في هذه السطور أجبنا عن الكم الهائل من التساؤلات التي قد تشكِّل الإجابة حولها فك اللغز اللبناني الذي احتارت البرية فيه. وطن صغير مستخلَص من طوائف هي السبب في الداء الذي يحتاج وعلى أقصى السرعة إلى الدواء والمداوي. والله خير معين.