بقلم - فـــؤاد مطـــر
قد يستغرب البعض من بني الأهل (اللبنانيين) وبني القوم (العرب) الذين يتشاطرون متابعة تطورات الأزمة الرئاسية في لبنان، أنني الآن - بعد قرابة نصف قرن على تلك المحنة طوال سنوات السبعينات - أرى في ضوء ما يحدث في المشهد اللبناني وتحديداً في ما يتعلق بأزمة انتخاب رئيس للجمهورية، أن سيناريو انتخاب إلياس سركيس (رحمة الله عليه) يوم السبت 8 مايو (أيار) 1976 ربما يتكرر حتى يكون له مثيل، وذلك لأن مقتضيات التنفيذ متوافرة وإن تبدلت الوجوه ومراكز القوى والتأثير. وأقول ذلك لأنني كنتُ من بين الذين عايشوا سنوات الحرب اللبنانية، وكابدوا إلى الحد الذي باتت فيه الهجرة سبيل إنقاذ يحمل إلى ملاذي المصري ثم الفرنسي فالبريطاني إلى جانب الألم النفسي عشرات الإضبارات التي تحوي أوراق يوميات مراحل تلك المحنة الوطنية ما من الواجب علينا العودة إليها عند الدواهي السياسية التي تلفح الملامح الديمقراطية للبنان على ما كان عليه في زمن مضى تتم فيه ممارسة هذه الديمقراطية من دون أثقال السلاح والثورة والثوريين عليها. وأيضاً من حق أجيال الحاضر من الأبناء والأحفاد أن تلم بتلك المراحل.
وإلى بعض ما في الإضبارات من أوراق ومقارنة ما تحويه من وقائع أستند في ما أفترض حدوثه، إلى أن التاريخ الرئاسي اللبناني حافل بالمباغتات، وأن مباغتة ترئيس أحدهم على الجمهورية المبتلاة بكل أنواع الفيروسات الحزبية والطائفية والسلاحية وضعف الولاء للوطن، يمكن أن تتكرر على نحو ما حدث بالنسبة إلى ترئيس سابع الرؤساء في زمن الاستقلال الذي كان يحتاج إلى أجيال تصونه لا أن تمعن في توظيفه كأنه بضاعة برسم مَن يشتريها.
سابع الرؤساء هو (الراحل) إلياس سركيس الذي إنصافاً لتاريخه وعصاميته وثقافته وأمانته، لم يسع إلى المنصب. وتلك الأزمة المستعصية التي عصفت بلبنان كما حال بعض محطاتها في أيامنا هذه، حملت الذين في أيديهم السيطرة على القرار في لبنان على اختياره دون غيره من أهل السياسة خشية أن تصبح الحرب الأهلية المتقطعة حرباً دائمة تجرف كل ما في طريقها حجراً كان أو بشراً.
في تلك الحقبة كانت جولات الاحتراب الأهلي الطائفي قد بلغت ذروة التوحش بالتزامن مع مناكفات أهل السياسة التي قيل فيها من العبارات السيئة، ما جعل سوق البيع والشراء للقيم الوطنية في ازدهار، ثم كثرت المتاريس، وكثرت معها الزيارات إلى سوريا بهدف المساعدة على ضبط الأمور.
لم تثمر التمنيات من جانب المرجعيات الروحية. وقد بدأت الجامعات تقفل الأبواب، ويفعل الشيء نفسه أصحاب المتاجر والمؤسسات، وازدادت حدة كلام مرجعيات مسيحية ضد الفلسطينيين، وكثرت حالات العنف والخطف والحواجز التي قضى فيها كثيرون من المسلمين والمسيحيين. وباتت الدعوة إلى الإجهاز على الفلسطينيين تزيد النار اشتعالاً، وتصل الحال باثنيْن من المسيحيين المستنيرين إلى قول ما هو حبيس الصدور، أولهما ريمون إده (الماروني) الذي قال في ضوء زيارة قام بها إلى واشنطن: «إن الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول العربية، تريد جعْل لبنان مقبرة الثورة الفلسطينية على أن يغتالها المسيحيون والمسلمون»، وثانيهما غسان تويني (الأرثوذكسي) الذي قال: «إن اللبنانيين وصلوا إلى نهاية الطريق، فإما أن يقتسموا الحُكم وذلك يكون بالديمقراطية والمشاركة، وإما أن يقتسموا الوطن وذلك يكون الانتحار».
في ظل هذه الأجواء وما تبادله زعماء سياسيون ومن ذلك قول صائب سلام عن الرئيس سليمان فرنجية وكميل شمعون: «كان لبنان برأس واحد غير مسؤول في القصور العالية، فأصبح اليوم برأسيْن غير مسؤوليْن في تلك القصور، يتطلعان إلى روما من فوق وهي تحترق. لقد فاوض شمعون إخواننا السوريين على إقامة كيان كونفدرالي بين لبنان وسوريا، ولولا الوزير خدام لما كان كميل شمعون اليوم في وزارة الداخلية...». ويرد شمعون: «كنت ولا أزال أقول إن السيد صائب سلام مصاب بمرض عضال... هذا المرض العقلي الذي يصيب الإنسان عندما يفقد أعصابه وينهار معنوياً».
وعندما يتعمد شمعون بصفته وزيراً للداخلية في الحكومة تذكير رئيسها رشيد كرامي بأنه كان رئيساً للوزراء في عهد فؤاد شهاب، وفي الوقت نفسه تحت إمرة دائرة الاستخبارات يرد عليه كرامي بالقول: «كيف يعْقل أن يأمر وزير الداخلية قوى الأمن بضرْب المسلحين وهو الذي يعلم أن النمور فالتة في الشوارع وهو كبيرها؟ إنني أُشفق عليه نظراً إلى كبر سنه وإنني رئيسه على كل حال، ولذلك فالعفو من شِيم الكرام». ويرد شمعون على الرد بعبارة: «إنها أسطوانة نشأ وترعرع عليها السيد رشيد كرامي، وهذا يعود إلى حداثة سنه في السياسة». كان فرنجية يروم هدوء رئاسته واستقرارها بعد هذه الوثيقة التي شكَّلت عملياً انخراطاً نوعياً للدور السوري سياسياً وعسكرياً في لبنان، لكن التطورات جاءت تثبط عزيمته؛ حيث قام العميد عزيز الأحدب بحركة انقلابية هي الأولى منذ عام 1943. وقد لقيت الحركة في بداية الأمر ترحيباً لمجرد أنها انقلاب، وكان لافتاً تأييد ثلاثة صقور موارنة لها هم: الشاعر سعيد عقل وفؤاد الشمالي وأبو أرز. وقد بدأ التصدع في المؤسسة العسكرية، وكثرت حالات سقوط الثكنات في أيادي ما سمي «جيش لبنان العربي» الذي يقوده الملازم أول أحمد الخطيب، ثم نهْب السراي الحكومي، وإشعال حريق في مبنى مجلس النواب. وأما الشارع اللبناني فمستباح كما السيادة.
بات أنه لا بد من استقالة رئيس الجمهورية ما دامت ثمانون قذيفة مدفع قد استهدفت القصر وغرفاً محددة فيه. كان الرئيس فرنجية قبل ذلك متمسكاً بالبقاء حتى آخر يوم من السنة السادسة، ويقول بعدما تم إعداد عريضة تحمل توقيع 66 نائباً تطالبه بالاستقالة: «إذا كانوا يذكِّرونني بالشيخ بشارة الخوري فهو استقال في السنة التاسعة لولايته وليس في السنة السادسة، وأنا سأكمل السنة السادسة، ولن أسمح لهم بأن يدوسوا الدستور بسبب أهواء ركبت بعض الرؤوس». وقبْل هذا كان قد اتصل بالرئيس حافظ الأسد، وبعد الاتصال راح يردد: «إذا أرادوا إخراجي فلن يكون ذلك إلا جثة».
لكن الفعل نقيض القول. في البداية غادر الرئيس فرنجية القصر بعد القصف المدفعي عليه، ثم كان التعديل الدستوري الذي بموجبه غادر نهائياً لتبدأ أكثر عمليات الترئيس إثارة في تاريخ الرئاسات.
بداية كانت سوريا الأسدية التي تمكنت بما فيه الكفاية بلبنان قد نظرت في أمر ثلاثة لاختيار أحدهم بعد استبعاد ريمون إده هم: ميشال الخوري، وجان عزيز، وإلياس سركيس. ثم كان اختيار الثالث الذي كان يقيم في فندق «كارلتون» منذ اشتعال الحرب، فضلاً عن أنه غير متزوج لكي يكون له السكن العائلي. لكن كيف الانتخاب والدنيا قياماً وقعوداً ولا أمل في بضع ساعات استقرار. هنا جاءت فكرة الانعقاد الإجباري، أي بالقوة لتأمين إحضار النواب، لكن من سيتولى إحضارهم؟ لقد أعلن إلياس سركيس بعد إشارات وصلتْه وهو في الفندق المقيم فيه باختياره ليكون الرئيس ولو كره المسيحيون وغيرهم هذا الاختيار غير الواضحة حيثياته، وباتت المعضلة تأمين النواب قسراً أو بالرضا لحضورهم وانتخابه، إذ ليس في لبنان أجواء طبيعية. وقد اجترح عقل المخطط الاستراتيجي للحياة السياسية في لبنان خطة لا مثيل لها في تاريخ لبنان وربما الدول الديمقراطية النهج: قوات منظمة «الصاعقة» التنظيم الفلسطيني التابع للنظام السوري تتولى الأمر.
ما حصل «يوم إلياس سركيس» أي يوم انتخابه رئيساً للجمهورية (السبت 8 مايو 1976) كان حدثاً لا مثيل له في تاريخ الديمقراطيات على أنواعها. ففي التاسعة صباحاً تمركزت قوات التنظيم الفلسطيني - السوري أمام فندق «البريستول» حيث يقيم عدد من النواب، وأبلغهم قائدها أنها ستتولى تأمين إيصالهم إلى حيث تقرر أن يكون عقْد الجلسة في «فيلا» يملكها النائب المصرفي حسين منصور. وقد تولت فِرق أُخرى من «الصاعقة» تأمين توصيل نواب آخرين من فنادق سُكناهم. كل خطوط الهاتف مقطوعة تفادياً لاتصالات تعطيل الوصول أو عدم الحضور. وعند الواحدة والربع بعد الظهر قرع رئيس المجلس كامل الأسعد الجرس. حيث اكتمل سيناريو الاقتراع. نال إلياس سركيس 66 صوتاً. وُجدت 3 أوراق بيضاء. ثم انفرجت الأسارير. تُلي المحضر ثم بدأ الرئيس السابع المهمة الأكثر مشقة وشقاءً في حياته والتي عجلت برحيله مريضاً في باريس بعدما أمكنه تسليم المقاليد إلى أمين بيار الجميل لأن شقيقه الرئيس بشير كان قضى تفجيراً بتدبير من الحزب القومي السوري.
ما يمكن قوله في ضوء هذا المشهد الدرامي الذي أضأت بعض محطاته، أن لبنان الحاضر يعيش ظروفاً قريبة الشبه من الظروف التي عاشها في السبعينات، وكان تأمين اختيار رئيس للجمهورية يشكل لحظة فاصلة بين انهيار الوطن والصيغة.
ومن هنا فإنه عند التأمل في أحوال الحاضر نرى مؤسسات الدولة تتهاوى وأحدثها سُلطة القضاء. يبقى الأمل في صمود المؤسسة العسكرية، ولكن تجربة انقسام الجيش في السبعينات حاضرة في البال فيما العالم منهمك في أن تنتهي التحديات حرباً عالمية ثالثة (حرب الدبابات) الأطلسية لأوكرانيا التي يواجه الغرب بها الرئيس بوتين الملتزم بوعده للروس بأن روسيا ستنتصر مع أن الحرب طالت، وكلما طال أمدها لم يعد هنالك سوى الخاسرين. إذن مَن سيهتم بأمر الجنون اللبناني؟
إن التأمل في الذي عاشه لبنان في السبعينات وما يعيشه اللبنانيون الآن، يفترض أن «حزب الله» ربما يعتمد كطلقة أخيرة في المسدس الصيغة نفسها التي جرى اعتمادها في انتخاب إلياس سركيس، بحيث يتولى عناصره إحضار النواب لانتخاب الرئيس الذي يراه الحزب، مستنداً في ذلك إلى باعه العسكري وضعف شأن الآخرين. وبذلك تتأمن صيغة الرئيس الحليف كما كانت مع الرئيس ميشال عون. وقول إن محطات في التاريخ تتكرر بفعل التطورات تؤكده الحال الراهنة للمعادلة: فراغ رئاسي. أما التبدل ففي الأدوار لفرض رئيس أمر واقع. سوريا وذراعها منظمة «الصاعقة» ماضياً، وإيران وشأنها العسكري المستتر منه والظاهر حاضراً، خصوصاً تحت وطأة مضاعفات الوضع الداخلي المرتبك وحرب العقوبات على كياناتها الثورية والمالية. وأما الذراع فإنها عناصر «حزب الله» الأكثر التزاماً وقدرة من «صاعقة» زهير محسن.
حفظ الله لبنان العربي، وصان المولى صيغته وسيادته.