بقلم - فـــؤاد مطـــر
في مطلع سنوات الحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية على العراق بدءاً بحرب بوش الأب ثم بنسبة أكثر قساوة في زمن بوش الابن، لجأ الحكم الصدامي إلى تحفيز العراقيين على الاهتمام بالزراعة وتخفيف اتكالهم على عوائد الثروة النفطية. ولقي هذا التحفيز تجاوباً متدرجاً من العراقيين، وفي ضوء ذلك حدثت خطوات على طريق الهجرة المعاكسة بمعنى هجرة البعض من أهل المدن إلى الريف والاهتمام بالأرض؛ يزرعونها ويعتاشون من محاصيلها.
لم تنهِ هذه الهجرة المعاكسة وطأة الحصار والعقوبات على أنواعها لكنها قلصت تداعياتها وحفظت لعائلات كثيرة كرامتها، علاوة على أنها بعثت اهتمامات غيبها النعيم النفطي عن واجب الاهتمام بالأرض والزراعة والعناية بالشجر يجني البشر ثماره. وبالتالي انحسرت مشاعر الضيق من الأحوال العامة بما خفف عن النظام بعض الأثقال.
كان يمكن لظاهرة الهجرة المعاكسة من المدن إلى الريف أن تثمر أكثر لو أن العراق عاش حقبة من الاستقرار، وهذا ما كان يتمناه الناس، لكنهم لم يدركوا النسبة البسيطة منه. وهذه أحوال العراق تشهد على أن الاستقرار المنشود بعيد المنال لكثرة انسداده السياسي القريب الشبه من الانسداد الغارق فيه كل من ليبيا وتونس والسودان.
مناسبة هذا الاستحضار لواقعة لم تأخذ مداها الأرحب، ونعني بذلك عودة الناس إلى الأرض التي تركوها ليستقروا في المدن يعتاشون من راتب الوظيفة بدلاً عن عائد محاصيل الأرض المزروعة قمحاً وحبوباً وخضاراً والأشجار التي تثمر ما لذ وطاب من الفاكهة، أن العالم العربي في معظم أقطاره بدأ يعيش أزمة غذاء سبقت ببضع سنوات التطورات الناشئة عن الحرب الروسية على أوكرانيا والمستمرة للشهر الرابع بين كل من الطرفين الروسي من جهة والأطلسي من جهة مقابلة إخضاعاً لإرادة الآخر. وأحدث هذه التطورات أن ورقة الإخضاع عسكرياً من جانب الرئيس بوتين بدأت تتراجع بعض الشيء لتحل محلها ورقة الإخضاع الغذائي. وهذا أمر غير مسبوق في تاريخ التعامل الروسي مع العالم الخارجي. فما اعتاد المجتمع الدولي عليه من الكرملين ماضياً في زمنه الماركسي هو أن ما يمكن تقديمه هو السلاح لهذه الدولة أو تلك، وكذلك المساعدة تقنياً في إقامة مصانع. ومثل هذا الأمر عاشه العالم العربي في الخمسينات عندما كان تقديم السلاح إلى مصر عبد الناصر هو في استطاعة الكرملين تقديمه، فضلاً على مساعدة مصر في بناء مصانع إنتاجية أبرزها للحديد والصلب في حلوان القريبة من القاهرة ثم المساعدة الأكثر تقدماً المتمثلة في إنشاء السد العالي في أسوان.
تلك كانت الورقة المرحب بها من روسيا أيام الحكم الشيوعي ولقد أفادت بعض الأنظمة لجهة التسليح إلا أنها عدا ذلك لم تحقق أي فائدة. ثم يأتي الرئيس بوتين ويرفع إلى أعلى الدرجات ورقة المساعدة عسكرياً بدخوله ميدانياً حلبة الصراع الدولي في سوريا، حيث أقام قواعد على الأرض وعلى الساحل وبات للسلاح الجوي الروسي دوره اللافت في حلبة الصراع تلك. ومع أن التورط السوفياتي في أفغانستان حاضر في ذاكرته إلا أن الرئيس بوتين آثر أن يمارس الدور نفسه في سوريا ثم يطور ورقة السلاح إلى حرب ما زال يخوضها لإحراج الولايات المتحدة وحليفاتها الدول الأعضاء في حلف الأطلسي من خلال إخضاع الدولة الأوكرانية. وهو عندما وجد أن تقديراته للموقف اختلّت وباتت الحرب التي بدأها غير محسومة النتائج وغير محددة الاستمرار، أخرج من صندوق الحاوي (تشبيهاً) ورقة الغذاء أخذاً في الاعتبار أن الشعوب الأوروبية والعربية وعموم دول العالم ستكون إما إلى جانبه أو في الحد الأدنى ورقة ضغط على الطرف الآخر لكي يتصرف في موضوع الحرب الروسية - الأطلسية على أوكرانيا بما يحفظ كرامة الدولة الكبرى روسيا.
ما نعنيه «ورقة الحاوي الروسي» هي رفع العقوبات الدولية عن نظامه مقابل تصدير القمح والذرة والغاز والأسمدة وسائر المنتجات الزراعية وهو يسحب هذه الورقة في الوقت الذي بدأ الأنين الشعبي العالمي من تداعيات الحجب الروسي للغذاء والغاز على أهبة أن يصبح صرخات من جانب شعوب عربية تعاني بين اليوم والآخر أزمة خبز لأن القمح الروسي وبالتالي الأوكراني وسائر المحاصيل الزراعية ومنها الذرة محجوب طوعاً رداً على قرارات العقوبات الأطلسية. كما يتعالى منسوب الضيق من مفاعيل أولية لحجب الغاز وما سيترتب على ذلك من ضائقة حادة لمستعمليه وبالذات مواطنو الدول الأوروبية.
بعد صيغة «حفظ ماء الوجه» التي لم تلق التجاوب الأميركي - الأطلسي لتكون تسوية يعقبها حل مستديم للصراع، ها هي ورقة الحاوي الروسي (رفع العقوبات مقابل الغذاء والغاز) برسم التأمل. رد الفعل الأولي عليها وبالذات اعتبارها «فدية مرفوضة» على نحو تصنيف وزيرة الخارجية البريطانية لا تفي بالغرض ولا ترضي حتى الشعب البريطاني المستمتع طهياً ودفئاً وإضاءة بالغاز الروسي ولا ترضي عشرات الملايين في دول العالم ومنها شعوب بعض الدول العربية التي تخشى من شبح الجوع الذي يقترب من أبواب ديارها. ولنا في أعقل رؤى اقتصادية ما قيل من على منبر منتدى دافوس قبل أيام وما جرى من أحاديث في كواليس المنتدى حول شبح الجوع الذي قد يقترب من مجتمعات كثيرة نتيجة أزمات الغذاء عموماً الناشئة عن تقلبات بالغة الخطورة في المناخ، وعن أزمة حجب القمح والحبوب على أنواعها وكذلك الغاز من بوتين الذي يحارب أوكرانيا بكل أنواع السلاح التدميري والرد عليه من الرئيس الأميركي بايدن بثبات المساندة للنظام الأوكراني بأمل أن تحقق هذه المساندة إحراجاً معنوياً في عمق مهابة الرئيس بوتين لأنه على نحو ما تروج له التنظيرات الأميركية - الأطلسية يتطلع إلى تعظيم شأنه دولياً وإلى حد تقاسم زعامة العالم مع الولايات المتحدة وقبل أن تستكمل الصين مقومات هذه المكانة وتسبق روسيا إليها.
في ضوء هذا الصراع الذي على ما يبدو سيطول وسيقترب الجوع وضيق العيش عموماً أكثر وأكثر من بعض المجتمعات، يأتي استحضارنا بما فعله العراق وكيف أن صيغة «النفط مقابل الغذاء» التي دامت سنوات طويلة بصيغة قرار أممي عام 1995 كسلاح إخضاع وإذلال للعراق الشعب والنظام على حد سواء، أوجبت جنوحاً إيجابياً نحو الاهتمام بالحقول رداً على ميادين المواجهات الحربية، ستكون برسم الاقتباس بعد اليوم لمجتمعات كثيرة على مستوى العالم وهو ما من حق الشعوب على حكامها الأخذ به كاستراتيجية. ومثل هذا المنحى يتجلى في خطوة بالغة الأهمية استوقفتنا ونحن نتأمل في التغطية المبهرة من جانب الصحف المصرية الصادرة يوم الأحد الماضي (22 مايو/ أيار 2022) لافتتاح الرئيس عبد الفتاح السيسي مشروع مستقبل مصر للإنتاج الزراعي. وكأنما الرئيس المصري يستبق ما في طيات الأزمة الدولية من مفاجآت فيقرر وبسواعد الجيش المصري إلى جانب القوى العاملة التقليدية البدء بزراعة مليونية الفدادين من شأنها إبقاء مصر التي يقترب تعدادها من المائة وعشرين مليوناً في رحاب الأفق العثماني.
هدى الله بوتين والجمع الأطلسي وبورك استباق الرئيس السيسي بالزرع الذي يجعل الملايين من المصريين يأكلون من خيرات أرضهم ما دام هنالك رئيس روسي وآخر أميركي ومعه رفاق أطالسة مستعذبون من خلال لعبة الحرب وورقة «الفدية» لرفع العقوبات مقابل الغذاء والغاز، أكل الحصرم من دون أن يعنيهم أمر الذين يضرسون... وهم بالمليارات في دول من القطب إلى القطب.