بقلم: فـــؤاد مطـــر
لا بد من إعادة النظر بعدما طال أمد التأجيل وعدم وضع الأمور في مدارها المستقيم. وإعادة النظر لا تنتقص من كبرياء رموز الأزمات، وإنما تضفي ملامح صفات محمودة بحيث يقال عن هذا الرمز أو ذاك إنه بعيد النظر؛ بدليل أنه في نهاية الأمر ترك كفة خيار الاستقرار ورفْع منسوب طمأنينة الشعب هي الراجحة في ميزان إدارة أمور الدولة على كفة استمرار التمسك بمشروع هيمنة يتجاوز حدود الوطن وينعكس ارتباكات متواصلة ومتعددة في أوساط الشعب، الذي هو في الأصل لم يؤخذ رأيه في هذه التطلعات من جانب رئيس الدولة، ولا بادر هذا الأخير إلى توسيع مجال التشاور وتحت سقف النقاش بنسبة من الحرية والطمأنينة قبْل أن يتخذ قراراته مبتهجاً بإصدار القرار متجاهلاً مفاعيل ما بعد خطوته.
ولنا على سبيل المثال لا الحصر، كيف أن إعادة النظر في قرارات وخطوات لم يتم اتخاذها أودت بنهايات مأساوية، ليس فقط لمَن لم يأخذ بها، وإنما للوطن الشعب والسيادة الوطنية. فلو أن الرئيس صدَّام مثلاً، اكتفى بما حققه من نصر نسبي في الحرب مع إيران وكان للمؤازرة الخليجية والشعبية العربية مساحة في هذا النصر، لكان العراق الآن في أحسن حال وربما كان هو شخصياً ما زال يحكم أو مؤثراً في صيغة الحُكم، خصوصاً أنه قبل اقترافه إثم غزوة الكويت كان على نحو ما قاله في سياق مقابلة أجريتها معه في صدد إعادة نظر متدرجة في مؤسسة الحُكْم عموماً بحيث يصبح «مجلس قيادة الثورة» مجلس حكماء تتمثل فيه الأطياف الواعدة في الدولة، كما تكون هنالك انتخابات مجلس نواب فاعل ومتفاعل. كما أيضاً يكون هنالك انتخاب لرئيس الجمهورية على نحو الحال في أنظمة دول أُخرى. وقال: إنه في خطوة على هذا المنحى كانت صياغة دستور جديد، لاحظتُ ككاتب وصحافي يتابع الشأن العراقي أن منسوب الاعتدال في سبْك مواده كان أعلى مما هو عليه المنسوب الثوري. هل كان الرئيس صدَّام في صدد المباشرة بإعادة النظر، ثم جاءت السفيرة أبريل غلاسبي تشجع في نفسه نشوة التوظيف غير المبدئي وغير الضميري للنصر النسبي في الحرب مع إيران، فيتجاوز الوقفة الخليجية معه ويوجّه بغزوة لدولة الكويت التي كان من الواجب القومي عليه أن تكون، بدل الغزو والتمثيل بتجربتها الديمقراطية، محطة في جولة امتنان لدول الخليج على مساندتها له بعدما تَحقق النصر النسبي المتمثل بإعلان الإمام الخميني وقْف القتال، معللاً إعلانه بأنه كمَن يتجرع السم.
وحتى رغم بشاعة الغزوة كان من شأن الإصغاء إلى تمنيات صدرت عن أكثر من طرف عربي ودولي حريص على العراق أن يحمله على إعادة النظر فيما فعله وذلك بأن يسحب القوات التي أرسلها إلى الكويت، ويقطع بذلك الطريق على حرب دولية إقليمية عليه أمعنت مفاعيلها تحويل العراق إلى وطن لا يستقر على حال. وهذا واضح عند التأمل في عقدين من سوء الحال لوطن كان سيبدو أكثر ازدهاراً وشعبه أكثر طمأنينة وجيرانه أكثر ثقة لو أن إعادة النظر تتقدم على التهيؤات الثورية كانت أم شغفاً بالهيمنة المتمددة والسُلطة المطلقة.
وفي ضوء ذلك، يبدو أمامنا الأخذ بإعادة النظر في حالة انبعاث متدرج. وفي المشهد الراهن هنالك أكثر من رموز مشاريع هيمنة أو تطلعات لممارسة السُلطة المطلقة، في أشد الحاجة إلى الاقتداء بما بدأ يأخذ به رموز المشروع الثوري الإيراني الذي بعد عقديْن مماثليْن لمثيلهما العراقي وجدوا أن في إعادة النظر السلامة والطمأنينة؛ فكان الاتكاء على الكتف الصيني يشجع رئيسه سعيهم من منطلق التقدير الحاصل عليه من أهل الحُكْم السعودي. وعندما ستكتمل محطات الوفاق بين إيران المرشد علي خامنئي وحلقات محيطه الثوري والسعودية الذي يستلهم ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، صفاء الحكمة والرؤية المستقبلية، فإن أطرافاً كثيرة لا بد ستبادر وربما استباقاً للطلب منها إلى إعادة النظر. فالأذرع الإيرانية ستبادر حتى إذا هي تمهلت بعض الشيء على نحو ما هو ملحوظ لدى «حزب الله» في لبنان الذي بات مأمولاً من أمين عام الحزب حسن نصر الله البدء بصفحة لبننة الحزب تنموياً وتربوياً، كما بات من السيد اليمني الحوثي يمننة طيفه الإيراني الهوى. وأما السودان الذي يعيش منذ سنتيْن حالة ارتباك لا مثيل لها؛ لأن الجنرال عبد الفتاح البرهان يرفض أن يكون محمد نجيب «ثورة الانقلاب» على نظام الرئيس عمر البشير، وأن رفيق الصيغة الانقلابية الثورية الجنرال محمد حمدان دقلو استمر يتمسك ضمناً بأنه هو عبد الناصر تلك «الثورة»؛ ونتيجة هذه التطلعات السلطوية ضاعت من عمر السودان سنتان اختلط فيهما الحلو مع المر. ولن يصفو الطَّعم إلا بعد أن تأخذ إعادة النظر التي تلوح في أفق العاصمة المثلثة مداها الجدي فلا يفاجأ السودانيون بما لا يريدون حصوله انقلاباً من جانب العسكر على العسكر أو من جانب العسكر على المدنيين. وفي ضوء التأمل في المسيرة السودانية على مدى ثلاثة أرباع القرن، فإن كل ذلك وارد... وإن هو إلى حين.
وأما إعادة النظر التي ستشكِّل ولادة استقامة الأحوال السياسية، فإنها المأمول حدوثها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحيث يداوي في حال إعادة النظر وأوقف حربه لتوأم غزوة صدَّام للكويت، بناء ما دمره وإطفاء ما أحدثتْه حرب «الأصل» الروسي على «الفرع» الأوكراني، وعندها لا يعود «قيصر» الزمن الحاضر برسم «إنتربول» القضاء الأطلسي الذي رغم استغراب قرار الإدانة الذي أصدره الأطالسة بتحفيز أميركي بغرض إحراج بوتين وزائره الحصيف الرئيس الصيني، فإن نتائج زعيمي الشرق البعيد توافقا بما من شأنه تهدئة صيحات التحدي الروسية - الأطلسية والخلود إلى قيلولة من التعقل. كما هنالك المأمول إعادة نظر أيضاً من الرئيس بشَّار الأسد بحيث يقرأ تباشير الود العربي المتدرج من مستتر إلى ملء السَمع والبصر نحوه بتفهم لواقع الحال السوري بحيث لا تعود أحوال الأكثرية السُنية في سوريا على النحو التي هي عليه.
وعندما تتم إعادة النظر يهدأ البال وتتلاشى بالتدرج ويلات الانقسام والتدخل الحربي في شؤون سوريا، فضلاً عن أن مطالبة النظام بانسحاب القوات التركية وكذلك الأميركية تصبح موضوعية نقيض ما هي عليه عند قوله حولها وهو يزور موسكو. ذلك أن المطالبة بانسحاب القوات التركية وأيضاً القوات الأميركية تصبح حقاً وطنياً مشروعاً... إنما في حال تلازمت مع المطالبة بانسحاب القوات الروسية والقوات الإيرانية والمقاتلين التابعين لـ«حزب الله» الذين أدّوا مهمة غير مستحبة من أخ يقاتل أخاه تمثلت بعمليات «جهادية»، حيث أمكنهم ضد السوريين المعارضين للنظام.
وأما إعادة النظر التي تعيد الوهج إلى وطن مسلوب الإرادة وحافل بكل أنواع الميليشيات، فإنها المأمول حدوثها في ليبيا بحيث تعود فيافي عمر المختار ذات شأن عربي وأفريقي ودولي كما حالها في بعض سنوات العقيد معمر القذَّافي وليست ممراً ومستقراً للعابثين باستقرار البلاد والعباد من مرتزقة وميليشيات. أما كيف العودة، فبوحدة الحال ووحدة الوطن وحكومة الشعب الواحد وبرلمان الأمة الواحدة. والأهم من ذلك طي صفحة «الإلغاء» توأم «الاجتثاث» و«الاستئصال» مع عميق التأمل في نتائجهما الفاشلة في كل من العراق والسودان. وكلتاهما بند في جدول أعمال إعادة النظر إذا كان يراد لكل من الدولتيْن ولليبيا معهما الأمان والاستقرار.وكل رمضان والأحوال الإسلامية على موعد مع الأفضل حالاً.