بقلم - حسين شبكشي
تنتمي شعوب روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا (روسيا البيضاء) إلى الشعوب السلافية، وهي مجموعة صغيرة من الشعوب الموجودة في أوروبا بشكل رئيسي. وتتركز هذه الشعوب في القارة الأوروبية العجوز، في شرق القارة وجنوبها جغرافياً. وعادة ما يتم تقسيم الشعوب السلافية إلى سلافيين شرقيين، وينتمي إلى هذه المجموعة بشكل أساسي الروس والأوكرانيون والبيلاروس.
وهناك السلاف الغربيون، وينتمي إلى تلك المجموعة التشيك والسلوفاك والبولنديون. وهناك السلاف الجنوبيون الذين ينتمي إليهم كل من الصرب والكروات والمقدونيين ومواطني الجبل الأسود والسلوفنيين والبوسنيين. ولقد شكلت هذه المجاميع السلافية نواة فكرة القوة المؤثرة للاتحاد السوفياتي في قلب أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مع دخولها إلى تشكيلات متجانسة تحت الغطاء السوفياتي، والذي كانت تقوده روسيا بنفسها. ولعل تلك الخلفية تفسر إلى حد ما الرغبة الجامحة التي تهيمن على تفكير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعامله مع أوكرانيا التي يعتبرها فصيلاً متمرداً على الأمة السلافية، وخصوصاً تلك التي تجاور روسيا نفسها.
الرئيس بوتين دائماً يرى فيما يحدث اليوم من أزمة عالمية بسبب جائحة «كوفيد – 19» وانشغال العالم بأزمة المناخ العالمي وتداعيات الوضع الاقتصادي والصراعات المتصاعدة في مناطق مختلفة حول العالم، فرصة ذهبية لفرض نوع من الواقع السياسي على الخلفية الفوضوية الحاصلة في العالم اليوم. فبوتين نفسه هو نتاج للفوضى؛ إذ جاء إلى الصورة بعد اللحظات النهائية في حياة الاتحاد السوفياتي بين عامي 1989 و1990 عندما سقطت منظومة الاتحاد السوفياتي كبيت من ورق.
ولكن الفوضى ليست دائماً مقننة ولا يمكن القضاء عليها بالمطلق، فهي دائماً ما تكون موجودة تحت سطح الحضارة، ويبقى الدور السيادي للدول هو إدارة تلك الفوضى بحنكة ومهارة وحكمة حتى لا تنقلب عليها، وهذا هو السر فيما يبتغيه بوتين اليوم. من الممكن أن تبحث الدول الغربية كما تريد عن المشاريع الكبرى لرؤيتها للعالم، ولكن بوتين لديه طلب أكثر سيولة وأكثر ديناميكية، وهو الموازنة بين القوة والفوضى، وقد يسمي هو ذلك الأمر أنه طبيعي جداً وله رؤية مختلفة عن الغرب في أن رغبة الغرب في إخراج الفوضى من الحياة السياسية هي مسألة ساذجة وطفولية.
في إحدى المقابلات في عام 2007 قال بوتين، إنه بعد وفاة الزعيم الهندي مهاتما غاندي لا يوجد أحد من الممكن التحدث إليه، بينما كان هو يقولها كطرفة، ولكن هذه العبارة نالت الكثير من التعليقات والتحليلات السياسية عن مقصد الرجل في استخدامه لتشبيه الزعيم الراحل غاندي، وكأنه كان يقصد بأنه اليوم أصبحت السيطرة للواقعية السياسية وليس للمثاليات، ولكنه أيضاً من ناحية صادمة وإلى حد كبير مذهلة يعتقد بوتين أنه في الخانة نفسها التي ينتمي إليها المهاتما غاندي، فكلاهما محطم للإمبراطوريات وكلاهما يكسر الواقع السياسي الحالي، وكما قام غاندي بدور حيوي في إنهاء الإمبراطورية البريطانية يرغب بوتين يوماً ما في أن ينظر خلفه برضا ونشوة في أنه كان له الدور في صناعة واقع جديد لما بعد الفترة الحربية للإمبراطورية الأميركية وإعادة فتح أبواب التاريخ بذلك.
هناك رغبات جامحة لدى الرئيس بوتين في صناعة تاريخ جديد لروسيا والشعوب السلافية، ويعتقد أنه لديه فرصة سانحة الآن لعمل شيء ما رغم هشاشة وضعه الاقتصادي مقارنة بالصين والولايات المتحدة والمعسكر الغربي بأسره. الكثير من زعماء العالم وقادته يختارون النظام، وآخرون يختارون الفوضى، بوتين نفسه يعتقد أن الطبيعة تفضّل الفوضى، وبالتالي من يختار الفوضى سيربح دائماً. قد تكون روسيا الرجل المريض في المعادلة السياسية العالمية اليوم، ولكن الرجل المريض بسلاح نووي ومدجج به يكون دائماً هو الأخطر في حالة الفوضى العالمية، وهذا هو العالم الذي يرغب في السيطرة عليه فلاديمير بوتين وأن يترك بصمته عليه نصرة للشعوب السلافية ولروسيا الأم.
من المهم جداً قراءة التحركات الجيوسياسية عند تقييم الأحداث الأمنية والعسكرية والسياسية الفاصلة في العالم اليوم، ولكن ذلك لا يقل أبداً عن أهمية القراءة التحليلية للنفسية المتعلقة بشخصية من بيده قرار الحرب والسلام، وفي هذه الحالة المعني هو نفسية فلاديمير بوتين التي ستحدد مسيرة الأزمة الحالية مع أوكرانيا وبين روسيا والمعسكر الغربي بأكمله، فهو مقتنع أن هذه فرصة محددة نادرة وفريدة من نوعها له لإثبات حضوره على الساحة الدولية؛ لأن لا مكان له وسط التصاعد الخطير والعظيم والمتنامي للقوة الصينية وهيمنة أميركا على المشهد العالمي، فهذه فرصة له لإثبات حضوره قبل فوات الأوان