من دون أن يفارق النخبة اللبنانية وهم التدخل من الخارج، سيبقى العمل السياسي اللبناني معلقاً بالوهم، كلما "دق الكوز بالجرة" سمعنا من بعضهم أن الموضوع اللبناني برمّته ينتظر التوافق الخارجي، تارة في الرياض وأخرى في طهران، مروراً بباريس وحتى واشنطن. إلى أن يقتنع الجميع بأن المشكلة داخلية (من بطن لبنان لا من خارجه) ستبقى المراوحة في المكان، من خلال ديموقراطية رخوة تمارس أمام الجميع.
نشهد انفراجات كبيرة في ملفات معقدة في منطقتنا، وهي أصبحت ظاهرة للعيان، ولم نشهد أي انفراجات بين النخبة اللبنانية، رغم أن الضرر على المواطن اللبناني بات أضعافاً مضاعفة من أي ضرر في الأزمات الأخرى!
الاعتراف بأن القضية كلها أو معظمها داخلية، يضع المراقب للمشهد اللبناني على سكة الفهم الأكثر صحة.
قيل إن "العهد القوى"، عهد ميشال عون ونسيبه العبقري سيحل مشكلات لبنان، تدهور الوضع اللبناني إلى مكان خفيض في عهد "الرجل القوي"! كما يقال الآن إن الرئيس المنتظر سيخرج لبنان من مأزقه. تلك أمنيات لا أكثر، فبوجود رئيس أو من دون رئيس، الوضع اللبناني غير قابل للشفاء بسبب القوى اللبنانية المتنافرة، لا بسبب ما يحدث في الخارج. فكرة الخارج محاولة للتبرؤ وتطهير النفس السياسية المدنسة من الآثام.
لقد ماتت السياسة في لبنان منذ زمن بعيد، كما غادرت الطهارة الفضاء السياسي اللبناني من دون رجعة.
ليس الانشقاق في حقيقته بين سنّة وشيعة، وليس بين مسيحيين ومسلمين، ذلك ظاهر يُراد به تغطية الإشكال الحقيقي، وهو استحواذ بعضهم على أكبر قدر من السلطة والنفوذ وبالتالي المال، وليس مهماً بعد ذلك إن كان من تلك الطائفة أو هذه، كما ليس مهماً أن يُطحن المواطن اللبناني في جحيم الفقر والفاقة والعوز، ويصبح لبنان مكاناً طارداً بعدما كان مأوى.
اللبنانيون يظهرون حباً لبعضهم بعضاً في الظاهر، ويحملون الكثير من المشاعر السلبية أيضاً لبعضهم بعضاً في الخفاء، لأن كلاً منهم يعتقد أن خبزه قد سرقه الآخر.
الدولة في لبنان شكلية، والقانون في لبنان قانون الطائفة، والحديث عن لبنان الدولة لفظي لا أكثر.
السكين الحادة في المطبخ اللبناني هي "حزب الله" الذي يحمل شعاراً ملتبساً هو "تحرير فلسطين" وكل ذلك خرافة، يعرف محازبوه قبل غيرهم أنه كذلك، هو استقواء من أجل النفوذ المالي والسياسي على الآخر في لبنان، بدعوى أن تلك الطائفة قد اضطُهدت لعقود طويلة ولا بأس في أن تضطهد الآخرين الآن ما دامت قد ملكت السلاح. مسرحية انتخاب الرئيس العبثية التي تمثل أمام العالم في البرلمان هي التي تؤكد ذلك الاستقواء، عدا مسلسل الاغتيال للمخالفين، وهي سلسلة طويلة أصبح كل لبناني يحفظها عن ظهر قلب، آخرها بالطبع المغدور لقمان سليم الذي ليس نهاية المطاف.
بلد يطالب العالم كله بكشف الفساد الذي نخر اقتصاده، ولكن النخب السياسية لا توافق على محاكمة واحد من المسؤولين (محافظ البنك المركزي) بل تتستر عليه، لا حباً في شخصه، ولكن خوفاً من نشر ملفات الفساد التي تطال معظم من عمل في السياسة اللبنانية منذ عقود.
ليس مهماً عدد المنتحرين بسبب العوز في لبنان، فقد فاق أي رقم آخر في العالم، وليست مهمة معاناة طائفة واسعة من اللبنانيين الفقر والعوز، المهم تقاسم الكعكة بين الأقوياء، الأقوى والأكثر صلافة يأخذ الجزء الأكبر من تلك الكعكة السامة.
مشكلة لبنان باطنية وليست خارجية، هي ازدراء الدولة في سبيل الدويلة، وحيازة سلاح خارج الدولة وأقوى منها، لأصحابه كل إيجابيات الدولة وليس عليهم وزرها، أو مسؤوليتها، وهذا السلاح مدعوم بهياكل شكلية تسمى في لبنان البرلمان وقيادته المزاجية.
يظهر المواطن اللبناني "المعتر" والذي لا سند له، باكياً شاكياً يقول: "لست قادراً على إطعام أبنائي ولا تطبيبهم ولا تعليمهم .. فالموت أفضل لي من الحياة"، ولكن ذلك لا يهز شعرة في ضمير النخب السياسية ما دامت مترعة بالرفاه والحماية.
لم يعد لبنان آمناً، ولم يعد جاذباً، لا للسياحة ولا للاستثمار، ولم تعد جامعاته ومنتدياته مكاناً للحوار وتبادل حر للرأي، كل ذلك بهت في لبنان وأخذ معه أيضاً شعاع لبنان القديم، والعودة إلى كل ذلك ليست بوجود رئيس جمهورية أو حكومة، ما دام القابض على القرار طرفاً مسلحاً ومهدداً للأمن الوطني، ولا قدرة لرئيس، أياً كان لونه، أن يردع ذلك الفريق.
المرض اللبناني مزمن وخلّف تآكلاً وتمزقاً في النسيج الاجتماعي، وزيادة استقطاب بين المستفيدين إلى درجة العجز، وشكوكاً متبادلة وضموراً أو غياباً للدولة، وتدهوراً في حياة معظم اللبنانيين، ما خلّف طلباً متسارعاً على الهجرة، الشرعية وغير الشرعية، وتجارة مخدرات تسبب مخاطر عظمى لدول الجوار.
خلاص لبنان من داخله لا من خارجه!! ليس بانتخاب رئيس يشارك في أكل الكعكة، بل في إنتاج نظام مختلف كلياً عما هو قائم، دولة موحدة وسلاح واحد!!