لا مصطلح سياسياً استخف به وأشبع تشنيعاً وامتهاناً في فضائنا العربي أكثر من مصطلح الديموقراطية! وبخاصة تلك الممارسة في الشرق الأوسط من أقصاه إلى أقصاه حتى سُمّيت إحدى دولنا "الجمهورية العظمى"!
بمجرد طرح النقاش حول الديموقراطية في أوساط النخب، تجد البعض يهب مدافعاً عن رأي يقول بأن أي تجربة ديموقراطية مهما كانت نتائجها سيئة، هي أفضل من لا ديموقراطية، هي هدف بذاتها عند هذه النخب، وليست وسيلة كما ينبغي أن تكون لتحقيق الخير العام، يُقبل بها شكلاً حتى لو تم تحت عباءتها ارتكاب الفساد وتخلف المجتمع مع إفقاره مادياً ومعنوياً.
لننظر في بعض التجارب حولنا، فها هي الديموقراطية اللبنانية، يحاول المجلس المنتخب تكراراً أن ينتخب رئيساً للجمهورية فلا يستطيع، ويتعاون مع حكومة ناقصة الولاية، على الأقل من حيث الوضع القانوي، ولكن الأهم أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية والصحية والتربوية والمعيشية في لبنان تنتقل من سيئ إلى أسوأ للأغلبية اللبنانية، وهي الآن تحت خط الفقر.
في تونس كان هناك برلمان، رغم ما تواجهه تونس من استحقاقات كبرى في الاقتصاد والإدارة، أصبح ذلك البرلمان مجرد "صياح ديكة" جعل في نهاية الأمر إطاحته مطلباً شعبياً، على الأقل في بداية الأمر، وما زالت تونس تراوح بين أي الأنظمة هي الأفضل لإدارة مجتمع متنوع واقتصادها يغرق.
في الكويت، رغم التفاؤل بنتائج الانتخابات الأخيرة، وبأنها ستُصلح المسار، إلا أن ما ظهر حتى الآن من ممارسات مخيب للآمال، فقد انبرى كثيرون من المُنتخبين إما لتصفية حسابات قديمة أو محاولة جر المجتمع إلى أن يكون "قندهارياً" بفرض أو باقتراح قوانين مقيدة للحريات، كما أن الإدارة العامة بقيت من دون إصلاح المسار، وأكثر المتفائلين في السابق بدأوا مراجعة مواقفهم لما تبين لهم أن المسار الجديد (إن كانت التسمية صحيحة) ليس فيه جديد.
تلك أمثلة فقط من دون ذكر الديموقراطية العراقية المليشيوية التي تفتك بالعراقيين تحت عنوان "صناديق الانتخاب"، أو الحكومة برأسين في ليبيا أو المستنقع اليمني، لذكر البعض من تجارب الخيبة عوضاً عن الكل.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى ما يحدث في إيران التي يرى البعض أن هيكلها السياسي فيه شيء اسمه البرلمان المنتخب، وهي تصفي المعارضين في الشوارع وتحقق الفشل الاقتصادي والتنموي بجدارة، إلى آخر ما نعرف من سلاسل الفشل في الدولة المأزومة.
في الغرب تعاني الديموقراطية مشكلات، على رأسها أنها في الكثير من الأوقات تنتج قيادات قريبة إلى التفاهة وتسيّر الدولة على قاعدة يوم بيوم من دون النظر إلى مصالح الدولة العليا، وتنتشر الصراعات الأفقية والعمودية في بعض تلك المجتمعات إلى حد الاقتراب من حرب أهلية.
هذا لا يعني أن ليس هناك استقرار في بعض التجارب الغربية، ومنها الدول الإسكندنافية، كما أن هناك نجاحات في بعض دول جنوب آسيا مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة. ولكن ما هو سبب ذلك النجاح؟
في لقاء لأحد المتحدثين الصينيين يشرح من وجهة نظره الفرق بين طريقة الحكم الصينية والطريقة الغربية بأن الأخيرة تعتمد على الانتخاب، وتدخل فيه عناصر كثيرة، مثل التعصب للحزب أو للأشخاص والمال السياسي، أو استخدام أدوات الدعاية والتضليل، فيما الأولى تعتمد على الكفاءة، فأي سياسي صيني لا بد من أن يمر بعدد من الدرجات والاختبارات ومنها فنون القيادة، لذلك لا يصل إلى السلطة العليا إلا وقد حكم بنجاح على الأقل ملايين الناس قبل ذلك، من المنطقة التي هو فيها إلى المدينة إلى المقاطعة إلى ما بعد ذلك، فالجدارة هنا والكفاءة هي ذات الوزن الأكبر في اختيار القيادات.
تم التساؤل: ما هو سبب نجاح بعض التجارب؟ فليس مطلوباً من البشرية اليوم أن تفاضل بين جدارة مصحوبة بتقدم اقتصادي وبخفض في سقف الحريات وبين حريات مصحوبة بتعطيل الدولة وفقر وفاقة وإدارة متردية وفساد، لذلك نجد أن الدول أو المجتمعات التي وازنت بين الكفاءة والحرية والتقدم الاقتصادي، تبنت معادلة لها عدد من المدخلات، أولها إصلاح هيكلية الانتخابات والتدقيق في اختيار المرشحين، ليس بسبب ميولهم السياسية، بل بوجود الكفاءة أو عدم وجودها، وهي يمكن أن تحسب من خلال تنظيم قانون انتخابي قائم على أحزاب تفرز من داخلها الأفضل وتضع برامج واضحة للناس، وأيضاً اعتبار أحد مؤشرات رضا الناخبين هو النسبية التي يحصل عليها المرشح ووضع قوانين صارمة لأخلاقيات العمل السياسي. كمثال ثارت مشكلة في إحدى الدول الإسكندنافية، لأن رئيسة الوزراء تناولت وجبة في مكتبها على حساب الدولة ومنزلها لا يبعد كثيراً من مكان عملها! ذلك مؤشر الى ما يعرف بأخلاقيات العمل السياسي، ونسمع بين فترة وأخرى أن نائباً بريطانياً أعفي من عمله البرلماني بضغط من حزبه، لأنه مثلاً كان يشاهد فيلماً إباحياً على تليفونه النقال في الجلسة الرسمية، أو آخر لأنه "تنمّر" على موظفة عنده! إلى آخره مما تنقله لنا الأخبار في عالم مفتوح! أما في قضائنا فإن النائب محصّن حتى لو ارتكب جرماً! كما حدث في قضية تفجير المرفأ في بيروت، وهي ليست الوحيدة في التجارب الأخرى!
العجيب أن الدولة في بعض تلك التجارب التي رصدت سابقاً تدعو الناس إلى حُسن الاختيار، وعندما يأتي الأمر إلى اختيار أشخاص للفرع التنفيذي تفشل هي في اختيار الأفضل!
ما تقدم يوصلنا إلى حقيقة أن المشكلة التي تواجه المجتمعات وتقود إلى خلل صارخ في الممارسة، وتدنّي الخدمات وزيادة رقعة الفساد والفقر والتدليس، وفشل الدولة في نهاية الأمر، ليس كلها في من يُختارون، ولكن ما هي سوية الأنظمة التي يختار الناس على أساسها، وهي أنظمة تضعها الدولة من دون منازع، فإن فقد ذلك الميزان اختل كل ما يوزن به، بما فيه الكفاءة والجدارة وحفظ الأمن والتقدم الاجتماعي والاقتصادي، بل حتى بقاء السلم الاجتماعي مستتباً. المأزق الذي تواجهه الديموقراطيات الشرق أوسطية أن ليس هناك احتمال لإصلاح آليات الديموقراطية، ولا إنفاذ اعتماد الجدارة والكفاءة في العمل العام، إلى جانب غياب القيادة الحاملة مشروع التحديث، هنا تكمن المشكلة وليست في مكان آخر.