أميركا وأوروبا وبينهما «الناتو»

أميركا وأوروبا وبينهما «الناتو»

أميركا وأوروبا وبينهما «الناتو»

 العرب اليوم -

أميركا وأوروبا وبينهما «الناتو»

بقلم - عبد الرحمن شلقم

القارة العجوز، لا يزال هذا العنوان معلقاً في رقبة القارة الأوروبية، إذ هناك أوروبا جديدة شابة وهي الولايات المتحدة الأميركية الوليدة الشابة لأمها أوروبا القديمة. الأوروبيون اكتشفوا الدنيا الجديدة وتدفقوا نحوها يحملون معهم أديانهم وثقافتهم وقوتهم وعلمهم وفلسفتهم، وصنعوا كيانهم الجديد الولايات المتحدة.
الحبل السري الرابط بين القارتين القديمة والجديدة لم ينقطع قط، وإن تغير طوله وقوته عبر الزمان وتطوراته في سلمه وحربه واقتصاده وسياساته وتحالفاته. هيمنت فرنسا وبريطانيا على العالم بقوتيهما العسكريتين عبر مشروعيهما الاستعماريين الواسعين، لكن الحرب العالمية الأولى أعادت ترتيب معادلات القوة العالمية، إثر قيام دولة الاتحاد السوفياتي الشيوعية وتدخل الولايات المتحدة عسكرياً لأول مرة في أوروبا، وبدأت الهيمنة الفرنسية والبريطانية يضعف عودها وتقر بنمو الريادة الأميركية. الحرب العالمية الثانية فتحت أبواب الدنيا على عصر جديد. أرادت ألمانيا النازية أن تعيد خارطة القوة في أوروبا واحتلت فرنسا وهدَّدت بريطانيا التي بقيت لوحدها تواجه النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، وأصبح انتصار هتلر مسألة وقت. تدخلت الولايات المتحدة بقواتها العسكرية الهائلة، وقادت مع القوات السوفياتية معركة الهزيمة الماحقة للنازية الألمانية. هيمنت أميركا على غرب أوروبا، في حين سيطر الاتحاد السوفياتي على شرقها.
خارطة قوة عالمية جديدة ولدت من رحم الحرب العالمية الثانية، وقامت كل واحدة من القوتين بتكريس منهجها السياسي في الجزء الذي سيطرت عليه من القارة العجوز، الغرب الديمقراطي، حيث تعدد الأحزاب وفتح الأبواب للنشاط السياسي واقتصاد السوق، في حين صار النظام الشيوعي القائم على حكم الحزب الواحد التابع لموسكو، المتحكم في دول الشرق. مشروع أميركا الذي عُرف بمشروع مارشال لإعادة إعمار بلدان أوروبا الغربية وتأسيس كيانها الاقتصادي الرأسمالي والصناعي، كان خيوط الحبل السري الجديد الذي ربط بين الجزء الغربي من القارة العجوز والقوة القارية والعالمية الجديدة، الولايات المتحدة. دول غرب أوروبا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية شبه مدمرة بالكامل، استقبلت الوجود العسكري الأميركي على أراضيها طائعة وسلمت بالتبعية السياسية لواشنطن بما فيها الإمبراطوريتان السابقتان فرنسا وبريطانيا.
الولايات المتحدة القوة الجديدة الأعظم، وجدت نفسها أمام عدو آخر له قوة عسكرية وآيديولوجية عابرة للحدود تستهدف التمدد في كل الدنيا، فأسست ذراعاً عسكرية لمواجهة المشروع السوفياتي، حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وصارت أوروبا رهينة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً للولايات المتحدة الأميركية.
تأسست أحزاب شيوعية في غرب أوروبا وكبرت بسرعة وارتبطت بموسكو مباشرة وتصاعد تأثيرها السياسي والنقابي، وأدركت دول أوروبا الغربية أنها أصبحت رهين القوتين العظميين في موسكو وواشنطن. شرع السياسيون في دول أوروبا الغربية في البحث عن رابط خاص يضمها في إطار اقتصادي ويوفر لها هوية تعاون في ميدان الصناعة التي تشكل الرافعة الأساسية لقوتها الاقتصادية، ويبني جسراً بينها يزداد اتساعاً وطولاً ويفتح أبواباً لتقارب سياسي واجتماعي في المستقبل. الجماعة الأوروبية للفحم والحديد والصلب (ecsc) تأسست رسمياً سنة 1951، بموجب معاهدة باريس التي وقعت عليها بلجيكا، وفرنسا، وإيطاليا، ولوكسمبرغ، وهولندا، وألمانيا الغربية، وكانت أول منظمة دولية تقوم على مبدأ الوحدة فوق الوطنية. هذه المعاهدة التأسيسية ظلت العقل الذي يحرك أوروبا نحو التعاون والتكامل الذي توج بقيام الاتحاد الأوروبي مروراً بالسوق الأوروبية المشتركة. كانت فرنسا الدولة التي لها حاسة سياسية تستشعر دبيب الهيمنة الأميركية والسوفياتية على القارة الأوروبية وتعمل بهدوء على تخليق كيان أوروبي يصلب تماسك القارة ويجعل لها درعاً مقاوماً للتبعية للشرق السوفياتي أو للولايات المتحدة الأميركية.
نجحت أوروبا في إقامة اتحاد اقتصادي كونفدرالي تحت اسم الاتحاد الأوروبي، وتحوّلت القارة كلها شرقها وغربها إلى كيان اقتصادي واحد تتحرك فيه شعوبها بحرية ولها عملة واحدة ومصرف مركزي وبرلمان ومجموعة تنفيذية، وحافظت كل دولة على كيانها الوطني بحكومته وبرلمانه وجيشه ومنظومة أمنه. رغم ذلك بقي سؤال الدفاع عن الاتحاد دون إجابة، أو لنقل إنه ظل مرتبطاً بتكوين عسكري هو حلف «الناتو» الذي جمع دول أوروبا الغربية مع الولايات المتحدة في بداية الحرب الباردة بين كتلتي الشرق والغرب، وقابله حلف وارسو الذي جمع الدول الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفياتي. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وخروج دول أوروبا الشرقية من تحت مظلته وزوال حلف وارسو أصبح السؤال، مَن هو العدو الذي سيواجهه حلف الناتو؟ وهل ستبقى أميركا هي القائد والآمر للحلف تحركه بقرار منها؟ هي التي تدفع النصيب الأكبر في ميزانية الحلف وتنشر جنودها وقواعدها في أراضي أوروبا. خارطة الأعداء تغيرت في الاستراتيجية الأميركية، وصارت الصين هي التي تُوجه لها قرون الاستشعار العدائية السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية الأميركية.
أوروبا الجديدة في اتحادها الاقتصادي الكونفدرالي الكبير القوي، شبَّت على طوق الهيمنة الأميركية، وصار لها أقلامها وأوراقها الخاصة التي ترسم عليها خرائط حساباتها وخياراتها. الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب خاطب أوروبا بلغة الوعيد، وطلب منها أن تدفع أكثر في ميزانية حلف «الناتو» وأن تأتمر بأمره في سياساتها الخارجية. بدأ الخلاف بين الجانبين. أوروبا لا ترى في الصين عدواً يهددها بأي شكل من الأشكال، بل ترى فيها شريكاً اقتصادياً حيوياً مهماً، فهي السوق والمصنع الأكبر في العالم، أما روسيا اليوم كما يراها الاتحاد الأوروبي فهي ليست الاتحاد السوفياتي ويمكن التعاون معها اقتصادياً وأمنياً رغم الخلاف، بل والعراك في بعض المحطات الأمنية، وكذلك في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها من القضايا.
أوكرانيا حلبة صراع بين روسيا وأميركا، لكن الاتحاد الأوروبي له مقاربته الخاصة للخلاف الروسي الأوكراني. تراجع الإقرار المطلق بقيادة الولايات المتحدة لحلف «الناتو»، ومراجعة هذا الأمر لم تعد سراً أو همساً في دوائر السياسة الأوروبية، خاصة بعد الغزو الأميركي للعراق الذي لم تستشر فيه أوروبا، بل اندفعت منفردة وأمرت دول الحلف باللحاق بها رغم اعتراض فرنسا، وانفردت الولايات المتحدة الأميركية بتشكيل النظام العراقي بعد سيطرتها العسكرية على كامل الدولة العراقية. ذات الشيء حدث في أفغانستان من البداية إلى النهاية. أوروبا لحقت قواتها بالجيش الأميركي الذي هاجم أفغانستان بعد الهجوم على برجي نيويورك من قِبل عناصر «القاعدة» التي تقيم قيادتها في أفغانستان، وعندما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من البلاد التي تمركزت فيها القوات الأميركية ومعها قوات «الناتو» على مدى عشرين سنة، لم تستشر شركاءها أعضاء حلف «الناتو»، ووجدت الدول الأوروبية نفسها مرغمة على قبول عشرات الآلاف من الأفغان الفارين من بلادهم بعد سيطرة «طالبان» على أفغانستان.
لقد تراكم تراب الخلاف بين الطرفين الأميركي والأوروبي ويزداد ثقلاً من دون توقف حول مسألتي الأمن والدفاع، وصار مستقبل حلف «الناتو» سؤالاً مطروحاً بقوة في الدوائر السياسية الأوروبية.

arabstoday

GMT 03:41 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

ثلثا ميركل... ثلث ثاتشر

GMT 03:35 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

مجلس التعاون ودوره الاصلي

GMT 03:32 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

عندما لمسنا الشمس

GMT 03:18 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

رسالة إلى دولة الرئيس بري

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أميركا وأوروبا وبينهما «الناتو» أميركا وأوروبا وبينهما «الناتو»



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 11:05 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد صلاح يعبر عن استيائه من إدارة ليفربول ويقترب من الرحيل
 العرب اليوم - محمد صلاح يعبر عن استيائه من إدارة ليفربول ويقترب من الرحيل

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف
 العرب اليوم - دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 15:39 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا يوسف تخوض تحديا جديدا في مشوارها الفني

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 17:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 08:16 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"حزب الله" يعلن استهداف قوات إسرائيلية في الخيام والمطلة

GMT 08:32 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 17:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الشيوخ الأميركي يطالب بايدن بوقف حرب السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab