جلطات التاريخ

جلطات التاريخ

جلطات التاريخ

 العرب اليوم -

جلطات التاريخ

بقلم : عبد الرحمن شلقم

العقد الثالث من هذا القرن زمن يهتز فيه العالم، وتعلوه سحابات الدم وأصوات العداوة، ورعشات الخوف العابرة للقارات. ما يتدفق من تحليلات وتوقعات عما يحمله القادم من الأيام، من تهديد للطبيعة، وما تعيشه بلدان كثيرة من جفاف وفيضانات، يجعل المستقبل طوفان خوف يحاصر الآمال، ويرفع دقات التوجُّس المرعب. الحروب لعنة يحملها الإنسان في كيانه المركب. تملأ دنيا اليوم الأخبار، عنفها يرتفع ويتسع. السلاح صار من المخلوقات التي يبدعها علماء الفناء. أعداد القتلى والجرحى التي تتسابق وسائل الإعلام على بثها، تدخل البيوت مع أخبار المباريات الرياضية، ومسابقات ملكات الجمال، وشطحات الموضة. القتل تحاصرنا أدواته التي تنبت كل يوم في العقول، وتُزف إلى المصانع. الطائرات المسيرة كتلة بكماء، تحمل الموت الغبي الذي ترسله أيدٍ وعقول تحتفي بمهرجانات الموت. في غزة يتابع العالم مهرجان إبادة لمئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين، وزمن الدمار يهوي على الحجر والشجر، والمستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس والجامعات. الجوع والأمراض والعطش سلاح إبادة شامل، وكأن شيئاً لم يكن. في أوكرانيا تلتهم الصواريخ والطائرات المسيرة أرواح وأجساد البشر، والتهديد بتوسيع الحرب يلامس حافة التلويح بالسلاح النووي. الحروب الأهلية التي تعصف ببلدان عديدة، والأعمال الإرهابية، والجرائم الجماعية والفردية، وأعمال العنف ضد النساء. الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، دفعت إلى الدنيا العضلات الحديدية، وأكملت سيطرة البشر على الطبيعة، وتقهقرت المسافات، وولد إنسان آخر، له من الأحلام والآمال ما يبشر بولادة بشر آخرين يقدسون الحياة الجديدة، ويركضون نحو تأسيس عالم سلام ورفاهية، لكن العنف الأناني كان أقوى. ظهر الإنسان الاستعماري الذي يُعلي المصالح الذاتية على الحياة. الحروب تنوعت، من أهلية إلى إقليمية ودولية، والدم صار وقود آلة القوة والسيطرة. أصبح هناك مَن يعشق الموت، لأن الحروب تحقّق له ما يحلم به من سيطرة مريضة ومصالح أنانية.

الفيلسوف الألماني إيريك فروم، الذي جمع بين التاريخ والفلسفة وعلم النفس، وكان من أبرز مفكري مدرسة فرانكفورت، غاص في أعماق الإنسان دراسة وتحليلاً. فكك رحلة الإنسان في محيطات الزمان وبحوره وأنهاره وفوق سطح الحياة بكل تجلياتها وتقلباتها. في كتابه: «جوهر الإنسان»، وقف إيريك فروم عند محطات في التاريخ، ظهرت فيها خبايا المكونات التي تكشف جوهر الإنسان، وعلاقة القوة بالموت والحياة.

النيكروفيليا تعني حب الموت، مقابل البيوفيليا، وتعني حب الحياة. وقف فروم عند خطاب لجنرال إسباني أثناء الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن الماضي. محبو الموت كان لهم مريدون متعصبون. كان الحب الشديد للموت يجذب الأتباع الذين يركضون وراء قادتهم بعيون عمياء، وعقول متحجرة. النيكروفيليون يحبون كل شيء لا ينمو، ولا حياة فيه. في وقفة مكثفة الدلالة، أورد المؤلف عبارات للفيلسوف الإسباني أونا مونو. كانت المناسبة خطاباً ألقاه الجنرال ميلان أستراي في جامعة سالامانكا الإسبانية. كان شعار الجنرال المفضل - يحيا الموت - وقد هتف به أحد أتباعه. وعندما انتهى الجنرال من خطابه، نهض أونا مونو وقال: «لقد سمعت بكاء نيكروفيلياً أحمق؛ يحيا الموت»!! هنا وقف الجنرال ميلان أستراي وصرخ: «يسقط العقل. وردد هتاف جنوده: يحيا الموت».

ثنائية الحياة والموت؛ ذاك السر المتفجر الرهيب الذي يعيش في صيرورة التاريخ المتحرك. البناء والتشييد والصناعة، ذلك أمر يرتفع في المعمورة، لكن صنوه الذي يحذوه من دون توقف هو الاختراع المتنوِّع لآلات القتل الفردي والجماعي. حب القتل هو حب الموت الكامن في النفس البشرية. النيكروفيليا هي حب القوة التي تحيل الإنسان إلى جثة، وهي تعتقد أن القتل هو التعبير المطلق على القوة. والشخص النيكروفيلي هو المنجذب نحو كل ما ليس حياً، وكل ما هو ميت؛ الجثث، التحلُّل، القذارة. النيكروفيليون يعشقون الحديث عن المرض، عن الدفن والموت، وهم يشعرون بالحياة والسعادة عند الحديث عن الموت.

يقول الفيلسوف إيريك فروم إن أدولف هتلر مثال واضح على النمط النيكروفيلي الكامل؛ لقد كان مفتوناً بالتدمير، ورائحة الموت، وكأنها لذَّة بالنسبة إليه. لقد كان يعشق تدمير الشعب الألماني وتدمير نفسه ومَن حوله. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، رأى جندي هتلر واقفاً في حالة نشوة، محدقاً في جثة متعفنة، ولا يريد الابتعاد عنها.

جيم جونز الذي قاد أكبر عملية انتحار جماعي في التاريخ، وذلك سنة 1978، في معبد الشعب بغويانا، وقام قرابة ألف شخص بتجرع السم، في حفل انتحار جماعي.

تلك التشوهات الرهيبة هي جلطات قاتلة في جسد الإنسانية، عبر صيرورة التاريخ الطويلة. هل ستزول جلطة «يحيا الموت»؟

 

arabstoday

GMT 19:33 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

لا لتعريب الطب

GMT 19:29 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

اللبنانيون واستقبال الجديد

GMT 14:05 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

شاعر الإسلام

GMT 14:02 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

الإرهاب الأخضر أو «الخمير الخضر»

GMT 14:00 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

أخطر سلاح في حرب السودان!

GMT 13:56 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

حذارِ تفويت الفرصة وكسر آمال اللبنانيين!

GMT 13:55 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

أين مقبرة كليوبترا ومارك أنطوني؟

GMT 13:52 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

نفط ليبيا في مهب النهب والإهدار

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جلطات التاريخ جلطات التاريخ



أحلام بإطلالات ناعمة وراقية في المملكة العربية السعودية

الرياض ـ العرب اليوم

GMT 17:14 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

عاصفة ثلجية مفاجئة تضرب الولايات المتحدة

GMT 11:55 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

مصر والعرب في دافوس

GMT 11:49 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

ليل الشتاء

GMT 17:05 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

مانشستر سيتي يوافق على انتقال كايل ووكر الى ميلان الإيطالى

GMT 17:07 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

كاف يحدد مكان وتوقيت إقامة قرعة كأس أمم إفريقيا 2025

GMT 03:19 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

القوات الإسرائيلية تجبر فلسطينيين على مغادرة جنين

GMT 17:06 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

بوروسيا دورتموند يعلن رسميًا إقالة نورى شاهين

GMT 17:04 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

شهيد و4 إصابات برصاص الاحتلال في رفح الفلسطينية

GMT 17:10 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

ارتفاع حصيلة عدوان إسرائيل على غزة لـ47 ألفا و161 شهيداً

GMT 09:58 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

أنغام تثير الجدل بتصريحاتها عن "صوت مصر" والزواج والاكتئاب

GMT 09:48 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

منة شلبي تواصل نشاطها السينمائي أمام نجم جديد

GMT 17:09 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا إلى أعلى مستوى منذ نوفمبر 2023

GMT 09:23 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

لغز اليمن... في ظلّ فشل الحروب الإيرانيّة

GMT 09:55 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

هنا الزاهد تنضم إلى كريم عبد العزيز وياسمين صبري

GMT 19:45 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

هل سيغير ترمب شكل العالم؟
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab