لبنان جارة وادي قلوبنا

لبنان جارة وادي قلوبنا

لبنان جارة وادي قلوبنا

 العرب اليوم -

لبنان جارة وادي قلوبنا

بقلم : عبد الرحمن شلقم

 

لبنان شجرة أرز، نمت فوق جبال الزمان. أصلها مكين في أعماق طبقات التكوين التاريخي الإنساني. أوراقها كُتبت عليها سطور التمثيل الضوئي لعبقرية الحركة والإبداع. الفينيقيون سبحوا مبكراً بمجاديف الحضارة على سطح ماء البحر الأبيض المتوسط. رست المراكب الفينيقية في شواطئ شمال أفريقيا، حيث أسسوا حضارة امتلكت قوة مالية وعسكرية. قرطاجنة مدَّت جسور الوصل بين البحر والبر، وعبرهم عرفت أوروبا أفريقيا. فوق جبال لبنان الخضراء، ترعرعت عبقرية الحركة القوية والناعمة، في البر والبحر. أعطت للإنسانية ما لم تكن تعرفه. طالتها ضربات الزمن الثقيلة، لكن خريطتها الطبيعية رسمت طبائع مَن نبتوا على أرضها. جابوا أرض الله شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. في البلاد العربية كان اللبناني دقة زندٍ تشعل أضواء العقول ونسمة إبداع.

فاض العطاء اللبناني إبداعاً في الأدب والصحافة والمسرح والموسيقى والغناء، وغمر جداول البلاد العربية، عبر العقود الممتدة. لبنان الحقل الذي تطير له بذور الإبداع الفارة من حبال الخنق أو الاختناق في أوطانها. نسيم الحرية كان هو الفصول الأربعة، وفي مساحته الصغيرة، اتسعت رحاب الأفكار. في أرضه يلتقي المختصمون العرب، يكتبون ويقولون، وفي لياليه يتحلقون حول موائد ما لذ من الطعام، وما راق من الشراب. تتحول لغة الخصام إلى قفشات ونكات وضحكات، وتصير كلمات السياسيين والصحافيين والمثقفين المؤدلجة، أنغام سمر تحيي العجائز، وتنعش الشباب. الأنظمة السياسية العربية تحوَّل كثير منها إلى لاجئ فكري وسياسي، في أرض لبنان، عبر مصطفين محليين في تنظيمات سياسية، ووسائل إعلام تعرض بضائع لاجئة، في خندق الحرية الفسيح لبنان. للمكان عبقريته التي تقدم دون توقف الإبداع، وتهب الجديد في الأدب والفن والفكر، وفي الموسيقى والسينما والغناء. في القارة الأفريقية، أينما حللتَ تجد لبنان عِلماً وثقافة وتجارة وطبّاً، وعن الأميركتين حدث ولا تسكت. قادة سياسيون، ورجال أعمال كبار وصغار، ومبدعون في كل مجال. لقد أهدت هذه المساحة الصغيرة العالم كلّ ما هو جميل. لبنان ينبوع معانٍ وإبداع وأغنية حب وطرب؛ قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي تغنى فيها بمدينة زحلة اللبنانية، التي عشقها وهي تطل بروعتها على وادي العرايش، رسم فيها بحرارة هيامه، وفرحة لغته، رسم فيها لوحة بألوان الزمن الجميل. مَن يستطيع أن يقاوم جبل الجمال، الذي ترفرف في عليائه شجرة الأرز؟ تغزَّل أحمد شوقي في زحلة التي أسرته بلا حدود، فقال:

يا جارة الوادي طربتُ وعادني

ما يشبه الأحلام من ذكراكِ

مثلتُ في الذكرى هواكِ وفي الكرى

والذكريات صدى السنين الحاكي

ضحكت إليَّ وجوهها وعيونها

ووجدتُ في أنفاسها ريَّاكِ

لم أدرِ ما طيب العناقِ على الهوى

حتى ترفَّق ساعدي فطواكِ

كان أمير الشعراء أحمد شوقي عاشقاً لزحلة.

في إحدى زيارته لها، كان برفقته الكاتب فكري أباظة، والموسيقار المطرب الكبير محمد عبد الوهاب، فكتب قصيدته الخالدة في عشق زحلة. وعندما ألقى شوقي القصيدة على مرافقيه، هلَّل محمد عبد الوهاب، وقال لشوقي: «هذه القصيدة نبعت منك كي تُغنى». لحنها عبد الوهاب وغناها، ثم غنتها فيروز، ونور الهدى، والمطرب المغربي عبد الهادي بلخياط. زحلة هي لبنان المعنى، والحب والتعايش والإبداع. فيها اجتمعت كل الألوان الدينية، تظللها شجرة الأرز المبدعة، وأوراقها تفوح بفرحة الفن والأدب والحب. هناك وُلِد سعيد عقل، الشاعر المفكر الذي أبدع قصيدته:

غنيتُ مكة أهلها الصيدا

والعيدُ يملأ أضلعي عيدا

فرحوا فلالاً تحت كلِّ سما

بيتٌ على بيت الهدى زِيدَا

يا قارئَ القرآن صلِّ لهم

أهلي هناك وطيب البيدا

هذا المبدع المسيحي الدين غنَّى لمكة البيت الحرام، وتغنَّى بها. سُئِل شيخ أزهري كبير: «هل تستمع للأغاني؟»، فأجاب: «لا أستمع إلا لفيروز». غنت فيروز المسيحية ما نظمه ابن زحلة في مناجاته لمكة، فأعطتها صوتاً روحياً مبتهلاً. من لبنان وفي لبنان، تعانقت الكلمات، وابتهلت الأصوات. من أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب، إلى سعيد عقل وفيروز. كان الزمن اللبناني العربي المسيحي الإسلامي مطرَّزاً بالحب والسلام والإبداع والحياة.

كيف تحولت ظلال شجرة الأرز، إلى دغل مظلم، وتحولت كلماته المترعة بالحب والحياة، وأنغامه الآسرة التي تروي الروح بموسيقى التعايش والعشق، إلى معزوفات رصاص، وصارت اللؤلؤة زحلة، تسمع وترى حفلات جنون القتل الفردي والجماعي؟ اندفع طوفان الطين الأحمر الآيديولوجي، وران على أرض الجمال لبنان؛ مرة بمدافع حشوها شعارات قومية، وأخرى بشعارات دينية. غرق مستطيل الحرية والإبداع والفرح، في مستنقع الموت والهروب واليأس. البحر الأبيض المتوسط، الذي حمل إلى الدنيا نتح شجرة الأرز، اختنقت نسائمه، وهو يرى ما حلَّ بمرافئ ما أبدع زمانه. لبنان كانت جارة وادي زماننا، وامتداد رحاب عقولنا وقلوبنا، صارت اليوم محفلاً لحروب كتائب جهلنا.

arabstoday

GMT 06:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 06:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

المالك والمستأجر.. بدائل متنوعة للحل

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 06:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

أوهام مغلوطة عن سرطان الثدي

GMT 06:31 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 06:29 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 06:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لقاء أبوظبي والقضايا الصعبة!

GMT 06:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الفاتيكان... ومرثية غزة الجريحة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان جارة وادي قلوبنا لبنان جارة وادي قلوبنا



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان
 العرب اليوم - غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
 العرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 07:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 11:10 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

مسيرات إسرائيلية تستهدف مستشفى كمال عدوان 7 مرات في غزة

GMT 17:28 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab