بقلم - عبد الرحمن شلقم
رحل منذ أيام أستاذ ليبي كبير في العلوم السياسية. البروفسور مالك محمد عبيد أبو شهيوه. الصديق الأعز مالك، كان ظاهرة علمية أعطى كل عمره للعلم. درس في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في مطلع السبعينيات. الأستاذ الكبير الدكتور حامد ربيع، كان أستاذه في علم النظرية السياسية. افتتن به طلابه، وصار أغلبهم يرون فيه حلمهم العلمي. كان موسوعة علمية في السياسة، وحمل عدداً من شهادات الدكتوراه، وأتقن خمس لغات. عُرف عن الدكتور حامد ربيع الجرأة التي تصل إلى حد المغامرة، في نظام سياسي مصري حاكم. قدم أحد طلابه ورقة بحثية، وعندما عرضها، علق عليه الدكتور حامد بصوت عالٍ ساخر وقال: «يا ابني الكلام الفاضي ده، تروح تقوله في الاتحاد الاشتراكي، وليس هنا، هنا فيه علم وبس». الطالب مالك عبيد، أخذ من أستاذه الموسوعة العلمية شيئين. الأول، وهب حياته للعلم فقط، رغم أن والد مالك، كان من الأثرياء في ليبيا. الثاني، الجرأة في كتاباته العلمية الغزيرة إلى حد التهور المغامر. ونحن طلبة بجامعة القاهرة، قمنا معاً برحلات في غرب أوروبا بطريقة، «الأوتوستوب» والسكن في بيوت الشباب. كان جواز السفر الليبي آنذاك بغلافه الأسود المكتوب عليه، المملكة الليبية يسمح لنا بدخول أغلب الدول الأوروبية دون تأشيرة، أو الحصول عليها بسهولة في المطارات عند الدخول، وكان الحصول على صكوك السفر (ترافيل شيك) أمراً في غاية السهولة من أي مصرف ليبي. كان مالك يحرص في رحلاتنا، بل يلح على زيارة مكانين وهما، المكتبات والمتاحف. بعد تخرجه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، سافر إلى الولايات المتحدة؛ لمواصلة دراساته العليا، وحصل على درجتَي الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جنوب كاليفورنيا لوس أنجليس. هناك بدأت مغامرته العلمية الخطيرة. كانت رسالة الماجستير، عن النظام الملكي في ليبيا، وتضمنت وثائق وإحصائيات عمّا قام به النظام الملكي من تنمية وتطوير في مختلف المجالات، مع تحليل لما كان به من هنات سياسية. أما رسالة الدكتوراه بعنوان، «العسكر في المجتمعات التقليدية، تأثير الحكم العسكري على التحديث والتطور السياسي في ليبيا» فقد تضمنت الرسالة بيانات وإحصائيات في مختلف المجالات. استعان في دراسته بعشرات المراجع العربية والأميركية، وخطابات العقيد معمر القذافي، وما كان في الندوات. الثورة الشعبية، وما أعلنه العقيد معمر القذافي في خطاب زوارة، والثورة الثقافية وما أعقبها من القبض على المثقفين. فكك في رسالته تكوين حركة الضباط الوحدويين الأحرار الذين أسقطوا النظام الملكي وتكوينهم الاجتماعي والاقتصادي. كان مضمون الرسالة نقداً تفصيلياً للنظام الحاكم في ليبيا. بعد نيله الدكتوراه، وفي طريق عودته إلى ليبيا، زارني بمنزلي بروما سنة 1986، عندما كنت سفيراً بها. عرض عليَّ مضمون رسالته، وطلب نصيحتي. قلت له إن الأمر في غاية الخطورة، وذهابك إلى ليبيا الآن يعني نهايتك دون شك. في ختام حديثنا قلت له: سأتصل ببعض الأصدقاء في طرابلس، لترتيب استقبالك. قال إنه سجل الرسالة باسم صديق لبناني له، وأعطاها عنواناً مراوغاً، وطلب من الجامعة عدم نشرها. بمساعدة عدد من المسؤولين في الأمن وفي مكتب اللجان الثورية، تمّت معالجة الأمر، بعد تحقيقات طويلة. التحق الدكتور مالك بجامعة طرابلس مدرساً للعلوم السياسية. لكنه بدأ بسلسلة مغامرات علمية لا تقل خطورة. قام بتأليف وترجمة عدد كبير من أمهات الكتب في الآيديولوجيا السياسية. أولها كتاب «الآيديولوجيا السياسية»، وصُنِّف من طرف الثوريين على أنه «معادٍ للثورة».
ثم كتاب «نظريات الدولة»، وهو تحليل للديمقراطية، تم ترجم معه صديقه وزميله الدكتور محمود خلف كتاب «صدام الحضارات». بعد ذلك صدرت الأوامر بمنع الدكتور مالك من الظهور على وسائل الإعلام الليبية كافة. تم كان العمل الآخر الذي لا يقل قيمة وخطورة في الوقت ذاته، وهو ترجمة كتاب أنطونيو جيدنز، «الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية الاجتماعية». قال القذافي إن ذلك الكتاب هو سرقة لأفكاره، لمجرد قراءته للعنوان، وقال في لقاء له مع الصحافي الكاتب محمد حسنين هيكل: إن كتاب جيدنز، هو سرقة للنظرية العالمية الثالثة التي صاغها في «الكتاب الأخضر»، لكن هيكل قال له، إن في ذلك الكتاب ما يختلف عن كل ما جاء في «الكتاب الأخضر»، بل هو يناقضه تماماً. تعرّض الدكتور مالك وشريكه في الترجمة الدكتور محمود خلف إلى التهديد والوعيد. تم قام الأستاذان مالك ومحمود خلف بترجمة كتاب، «العولمة والعولمة المضادة». تم واجه الأستاذان محمود ومالك مشكلة أخرى بعد ترجمة كتاب، «ثورات أواخر القرن العشرين»، وسُئلا عن عدم مناقشة «ثورة الفاتح من سبتمبر»، في ذاك الكتاب. تم جاءت مشكلة أخرى مع ترجمة كتاب، «الدمقرطة ـ التحولات السياسية نحو الدمقرطة في العالم».
أكثر من مرة كنت أنبه الصديق الدكتور مالك عبيد، ومعه زميله الدكتور محمود خلف إلى خطورة ما يؤلفان ويترجمان، لكن كان في داخل النظام عناصر تدافع عنهما بأسلوب ناعم، وكان بعض أساتذة الجامعة المحسوبين على حركة «اللجان الثورية»، يميلون إلى الانفتاح العلمي على العالم، بمَن فيهم بعض الوزراء والمثقفين.
لقد كان الدكتور مالك يزورني دون انقطاع ببيتي في طرابلس، ويستعير الكتب والمراجع من مكتبتي، ونتناقش في أغلب أعماله. كنتُ لا أخفي عنه عدم ارتياحي لما أسميه مغامراته العلمية، ومعه زميله الدكتور محمود خلف، وكان رده المتكرر: «أقصى ما سيقومون به، هو منع ما نكتبه أو نترجمه من النشر أو التداول»، لكنها ستنشر يوماً ما. بعد ثورة فبراير (شباط)، ترجم أطروحته للدكتوراه تحت عنوان «لماذا تخلفت ليبيا؟ هكذا حكم العسكر».
أصابه مرض السرطان، ونُقل إلى تونس للعلاج. زرته قبل أيام قليلة من رحيله. كان لقاؤنا الأخير. وأنا أنظر له وهو ممدد على فراش المرض الرهيب، عدت بأفكاري إلى سنوات طويلة قضيناها معاً في السفر أيام الشباب، وإلى معاركه العلمية العديدة، التي خاضها بشجاعة العالم الجسور، وها هو قد غلبه المرض الرهيب، في معركة لا تكافؤ فيها، ولا قدرة فيها للشجاعة أو المغامرة. رحم الله العلامة الكبير مالك عبيد أبو شهيوه.