بقلم - عماد الدين حسين
هل هناك ما يمكن للصحفيين المصريين والعرب الجدد أن يتعلموه من تجربة محمد حسنين هيكل الكاتب الصحفى المصرى والعربى الأشهر على الإطلاق؟!
قد تكون الإجابة المتسرعة من البعض كبارا وصغارا هى لا. ومبررهم أن الصحفيين الجدد يعيشون عالما وعصرا مختلفا تماما عن عالم وعصر هيكل سواء فى الأحداث أو الوسائل أو الأدوات أو الأفكار والرؤى. وهؤلاء يضيفون أن العالم ومعه مهنة الصحافة عموما قد تقدم بصورة يصعب على أى شخص تخيلها، وبالتالى فلن يستفيد الصحفيون الجدد من تجربة هيكل أو أى تجربة مماثلة.
يضيف هؤلاء أن تجربة هيكل فى الأساس كانت تعتمد على الصحف الورقية التى تكاد تندثر هذه الأيام، وبالتالى فهو لم يعش عصر منصات التواصل الاجتماعى والإعلام الرقمى بتنويعاته المختلفة. لكن فى ظنى أن كل ما سبق هو إجابة متسرعة وخاطئة جدا.
نعم هناك عالم جديد ومثير ويتغير كل لحظة. ونعم هناك وسائل إعلام حديث جدا، ونعم هناك غول وسائل التواصل الاجتماعى، التى غيرت الكثير من مفاهيم الصحافة التقليدية سواء كانت ورقية أو فضائية أو حتى إلكترونية.
لكن الصحيح أو ربما الأصح أن المحتوى والمضمون لم يتغير كثيرا، وهذا تحديدا هو ما كان هيكل يؤكد عليه دائما.
كان هيكل يقول دائما، وقد استمعت إليه مباشرة أن المحتوى هو الأساس مهما تغيرت الوسائل. وأن قيمة أى جريدة أو صحيفة أو وسيلة إعلام عموما هو ما الذى تقدمه فى العمق.
كان يقول دائما ــ وهو محق ــ أن الفضائية أو الموقع الإلكترونى أو أى وسيلة إعلامية قد تسبق فى نشر الخبر، لكن الصحيفة أو أى وسيلة إعلام تقليدية يمكنها أن تنفرد بالتحليل والتعمق فيما وراء الخبر وربما من هذا المفهوم نشأ مصطلح «صحافة العمق».
هيكل ولد فى ٢٣ سبتمبر ١٩٢٣ ونحن نحتفل هذه الأيام بمئوية مولده، وهو توفى فى ١٧ فبراير ٢٠١٦ عن عمر يناهز ٩٣ عاما. وظل هيكل محافظا على لياقته الذهنية والفكرية والصحفية حتى الأسابيع الأخيرة من حياته.
وكان سؤاله الدائم لكل أصحابه ومعارفه هو: «إيه الأخبار»، وكان يعتز دائما بلقب «الجورنانجى».
لكن الأهم من كل ذلك أنه كان يتطور ويطور نفسه مع كل جديد.
هو ابن الصحافة الورقية بامتياز، وهو واحد من أهم صناع الصحف فى مصر والوطن العربى بتجربة الأهرام المميزة، وكان ركنا أساسيا فى واحدة من أهم الإصدارات الفكرية العميقة وهى وجهات نظر التى كانت تصدر عن دار الشروق.
ورغم ذلك فلم يكن متحجرا، وحينما أدرك أن الصحافة الورقية تخبو، اتجه إلى التليفزيون فى العديد من التجارب خصوصا تجربة « مع هيكل» التى أنتجتها الشروق، وتم بثها على قناة الجزيرة ثم سلسلة حواراته على قناة سى بى سى مع لميس الحديدى.
جوهر ما كان يقدمه هيكل لم يتغير، تحليله العميق فى مقاله الأسبوعى فى الأهرام، لم يختلف كثيرا عن تحليلاته فى الكتب المختلفة التى أصدرها أو عن تحليلاته فى برامجه التليفزيونية المختلفة. تغيرت الوسائل كثيرا، لكن ظل المحتوى المتميز الذى يقدمه الأستاذ مستمرا.
نعود إلى السؤال الذى بدأت به وأقول بثقة أن الأجيال الجديدة من الصحفيين والإعلاميين محظوظة بالوسائل الحديثة التى تمكنها من الحصول على أنهار من المعلومات بكبسة زر واحدة، وهو ما لم يكن متاحا للأجيال القديمة التى كانت تقضى نهارا كاملا فى أضابير قسم الأرشيف بحثا عن معلومة أو رقم، لكن ذلك ليس كل الموضوع فالأهم هو المعرفة ثم الفهم والوعى والنظرة الشاملة والعمق.
الأجيال الجديدة يمكنها أن تستفيد من هيكل من خلال قراءة ودراسة وفهم تجربته حتى نتعلم أهمية القراءة أولا فى كل المجالات، ثم أهمية أن يكون لديك مصادر صحفية جيدة ومطلعة، حتى تحصل على الأخبار الجيدة المتميزة وأن تتعلم بعدها من تحليل الأخبار وربط الأحداث بعضها ببعض حتى تتضح الصورة كاملة للصحفى أولا، وبعدها ينقلها للقارئ أو المشاهد أو المتابع عموما.
صحافة العمق هى ما ينقص الصحافة المصرية والعربية رغم أطنان المعلومات الموجودة فى مواقع ومراكز ومحركات البحث الإلكترونية.
لو أن الصحفيين الجدد ركزوا فى التعمق فيما وراء الأخبار، فسوف يكتشفون أن هيكل كان رائدا بحق وما يزال حتى هذه اللحظة.
رحم الله الأستاذ.