بقلم - عماد الدين حسين
رئيس مجلس النواب العراقى محمد الحلبوسى زار القاهرة عام ٢٠٠٥، وركب التاكسى، وحينما وصل إلى وجهته أخرج النقود ليقدمها إلى السائق، الذى رفض أن يأخذها حينما علم أنه عراقى، وقال له: كيف أتقاضى منك أجرة وثمن هذا التاكسى من عائد عملى فى العراق؟!
التقيت الحلبوسى فى مقر مجلس النواب العراقى فى بغداد مساء السبت الماضى ضمن وفد صحفى وإعلامى مصرى ترأسه الأستاذ كرم جبر رئيس المجلس الأعلى للإعلام ورؤساء تحرير الصحف المصرية، بدعوة كريمة من مؤيد اللامى نقيب الصحفيين العراقيين ورئيس اتحاد الصحفيين العرب.
القصة التى حكاها لنا الحلبوسى تكشف إلى حد كبير مشاعر الود الكبيرة بين الشعبين المصرى والعراقى طوال عقود.
وطوال زيارتنا فإن قصصا مشابهة كثيرة سمعناها من المواطنين العراقيين والمصريين القليلين الموجودين هناك.
المصريون تدفقوا إلى العراق مع بداية السبعينيات من القرن الماضى، مقابل كثيرين أيضا توجهوا إلى الخليج خصوصا السعودية والكويت والإمارات.
الذين ذهبوا للعراق كان معظمهم خريجى الدبلومات والعمالة الفنية حيث عملوا فى كل المهن تقريبا.
والتقديرات أن عددهم وصل ذات فترة فى الثمانينيات إلى نحو ٥ ملايين عامل، وأحد الأسباب الأساسية لذلك أن السوق العراقية احتاجتهم بشدة بعد أن تم تجنيد العدد الأكبر من شباب العراق للقتال فى حرب الثمانى سنوات ضد إيران من عام «١٩٨٠ ــ ١٩٨٨».
غالبية المصريين الذين عملوا هناك يرون أن معاملة العراقيين لهم كانت طيبة جدا، ولم يكن هناك نظام الكفيل.
لا يعنى ذلك أن الأمور كلها كانت مثالية، لكنها كانت الأفضل مقارنة بكل الأسواق العربية التى عمل فيها المصريون فى تلك الفترة.
لكن هذا العدد الكبير عاد إلى مصر مع العواصف التى ضربت العراق والمنطقة حينما غزا صدام حسين الكويت فى الثانى من أغسطس ١٩٩٠، وإجباره على الخروج منها فى يناير ١٩٩١، ثم حصار الغرب للعراق، الذى استمر حتى تم غزوه أمريكيا فى مارس ٢٠٠٣.
تغيرت الخريطة وتوقفت الأعمال تقريبا ومرت مياه كثيرة فى كل الأنهار من دجلة إلى النيل مرورا بكل الأنهار العربية.
فى تلك الفترة الذهبية كان المصريون يدخلون العراق من دون تأشيرة، والعراقيون يدخلون مصر بنفس الطريقة. الآن تغير كل ذلك وصارت هناك تأشيرة، وصحيح أنها ليست بصعوبة التأشيرة إلى غالبية دول الخليج ولا حتى قيمتها المالية، لكنه إجراء عطل تدفق المصريين للعراق، والسياحة العراقية إلى مصر، فى حين يزور ٤ ملايين عراقى تركيا سنويا مستغلين عامل الجوار، رغم اختلاف اللغة والعادات والتقاليد إلى حد ما.
لكى يزور العراقى مصر فهو يحتاج تأشيرة تكلفه ٢٠٠ دولار فى حين أن دخول المصرى يفترض أن يكلفه نظريا ٨٠ دولارا فقط، لكن عمليا فإن هذه التكلفة فى المتوسط تبلغ ألف دولار «٢٥ ألف جنيه» وترتفع أحيانا إلى ٣٥ ألف جنيه بسبب وجود وسطاء كثيرين.
هل معنى ذلك أننا نطالب بعودة العمالة المصرية للعراق بنفس الطريقة القديمة؟
المؤكد أن الإجابة هى لا، فهذا التدفق العشوائى للعمالة المصرية إلى العراق وليبيا فى نفس الفترة لم يحقق هدفه الحقيقى بل وتسبب فى كثير من المشكلات.
وخلال النقاشات مع بعض الإعلاميين والمسئولين العراقيين وصلنا إلى تصور يرى ضرورة بذل جهد مكثف لإلغاء تأشيرة الدخول لمواطنى البلدين، أو أن تكون مجانية أو برسوم رمزية لتسهيل الدخول والتنقل.
لكن النقطة المهمة هى التأكيد على ضرورة أن تأتى العمالة المصرية بصورة منظمة عبر شركات وليس بالصورة الفردية العشوائية السابقة.
المسئولون العراقيون وفى مقدمتهم رئيس الوزراء محمد شياع السودانى ورئيس البرلمان محمد الحلبوسى أكدوا على أهمية وجود الشركات المصرية ذات الخبرة خصوصا فى بناء المساكن والبنية التحتية أو إقامة المدن المتخصصة فى الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وأن تكون هذه العمالة فنية وماهرة ومدربة.
خلال وجودى فى أحد مطاعم بغداد، قابلت أحد العاملين فى المطعم، وهو شاب مهذب من محافظة المنيا، وعرفت منه أنه دفع نحو ألف دولار للدخول والحصول على الإقامة.
الماضى كان جيدا، لكنه مضى، وبالتالى علينا أن ننظر للأمام ونبحث عن أفضل السبل لتقوية العلاقات الشاملة بين البلدين، وليس فقط مجرد دخول العمالة.
فى هذا المطعم الواسع جدا كان الجميع يستمع إلى أم كلثوم، وكل من قابلناهم رحبوا بنا بشدة. الأساس المتين للعلاقات موجود، علينا تقويته وتفعيله بعد أن استغل كثيرون غيابنا وغياب غالبية العرب عن العراق.