بقلم - عثمان ميرغني
أخيراً شعر الناس ببارقة أمل في الخروج من القتامة التي فرضتها جائحة كورونا على العالم. فالإعلان عن التوصل إلى لقاح فعال بنسبة 90 في المائة طورته شركة «بايونتك» الألمانية بالتعاون مع شركة «فايزر» الأميركية، كان هو الخبر الذي انتظره العالم طويلا، بل إنه قد يكون مقدمة لأخبار متتالية عن نجاح التجارب النهائية على لقاحات أخرى واعدة.
فالواقع أن الضجة الهائلة التي أحدثها إعلان شركة فايزر يوم الاثنين الماضي، غطت على خبرين آخرين إيجابيين في المعركة ضد فيروس كورونا المستجد. الأول أن هيئة الغذاء والدواء الأميركية منحت تصديقا طارئا في يوم الاثنين أيضا لعلاج تجريبي بالأجسام المضادة لكوفيد - 19 كان ضمن العلاجات التي استخدمت مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد إصابته بالمرض. الدواء الذي تنتجه شركة «إيلي ليلي» الأميركية يستخدم وفقا لقرار هيئة الغذاء والدواء فور تشخيص الإصابة بالفيروس، وفي غضون فترة 10 أيام من ظهور الأعراض، لكن مع التحذير من استخدامه مع المرضى الذين تجاوزوا هذه المرحلة ودخلوا المستشفيات.
الخبر الثاني هو إعلان شركة «نوفافاكس» الأميركية عن موافقة هيئة الغذاء والدواء على وضعها في «المسار السريع» لبدء تجارب المرحلة النهائية في الولايات المتحدة على اللقاح الذي تجربه مع «رويال فري هوسبيتال» في لندن وحقق نتائج أولية واعدة. وبهذه الخطوة فإن الشركة تستطيع تقديم طلب للتسويق بعرض البيانات على أجزاء بمجرد توفر كل جزء، بدلا من انتظار الحصول على البيانات الكاملة. وتتوقع الشركة أن يسرع هذا الأمر بخطواتها لعرض بياناتها والحصول على الموافقات المطلوبة لبدء مرحلة إنتاج اللقاح.
المهم أن الأنظار الآن تتركز على شركتي بايونتك وفايزر بعد الإعلان الذي أصدرته الأخيرة، وقالت فيه إن نتائج التجارب السريرية بناءً على المراجعة الرسمية الأولى للبيانات من قبل لجنة خارجية من الخبراء، أكدت أن اللقاح كان فعالاً بنسب 90 في المائة في الوقاية من المرض. وإذا صمدت هذه النتائج أمام تحليلات الخبراء المستقلين الذين سيدرسونها خلال الأيام والأسابيع المقبلة، فإننا أمام لقاح يحقق درجة عالية من الحماية تقارن مع لقاحات أخرى عالية الفاعلية مثل لقاح الحصبة.
تجربة اللقاح شارك فيها أكثر من 43 ألف شخص في أربع دول، 42 في المائة منهم من خلفيات متنوعة وهو أمر ضروري في التجارب لكي يكون اللقاح فعالا على أوسع نطاق ممكن. ولأن اللقاح من جرعتين يفصل بينهما 21 يوما فإن الوقاية تكون جزئية بعد الجرعة الأولى، وتتحقق الوقاية الكاملة بعد 7 أيام من الجرعة الثانية، بما يعني أن المرء يحصل على الوقاية من كوفيد - 19 بعد 28 يوما من بدء التطعيم لا بد له خلالها من اتباع وسائل الحيطة المتبعة حاليا.
أجواء الترحيب والتفاؤل بلقاح فايزر وبايونتك، رافقتها أيضا دعوات للحذر، وعدم أخذ هذا الإعلان المبدئي على أنه ضوء أخضر للناس لكي يتخلوا عن الالتزام بإجراءات الحيطة التي فرضتها الحكومات في الوقت الذي يمر فيه العالم بموجة ثانية من الجائحة. ولهذا السبب حرص رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على عقد مؤتمر صحافي بعد ساعات من الإعلان عن اللقاح الجديد، ليعلن عن ترحيبه بالخبر المهم والأمل الذي يحمله بالنسبة للقاحات أخرى في الطريق، وليحذر في الوقت ذاته البريطانيين ألا ينجرفوا وراء الإعلان وينسوا القيود المفروضة حاليا في مواجهة الموجة الثانية من الجائحة. وقال إن الناس يجب أن يتعاملوا مع هذه الموجة باعتبار أنه لا يوجد لقاح، وذلك لأن إنتاج كميات كافية منه وتأمين الحصول عليها لن يتحقق قبل الربيع المقبل في ظل منافسة محمومة من مختلف الدول للحصول على كميات كبيرة منه.
ويقول العلماء والمسؤولون في الحكومات حول العالم إنهم بانتظار الحصول على المزيد من البيانات لتمحيصها، إذ إن التفاصيل التي أفرجت عنها شركة فايزر في إعلانها يوم الاثنين الماضي عن نتائج التجارب النهائية كانت شحيحة للغاية. فالشركة ذاتها قالت في بيانها إن النتائج مبدئية وإنها تنتظر المزيد من البيانات، وتبعا لذلك فإن نسبة نجاعة اللقاح قد تتغير.
ما الخطوات المقبلة؟
بداية فإن البيانات المفصلة التي ينتظر الحصول عليها من الشركتين ستخضع للدراسة والتمحيص من جهات علمية مستقلة للتأكد من دقة النتائج المعلنة، ولضمان سلامة اللقاح ونجاعته. بعدها لا بد أن يجاز اللقاح في البلد الذي سينتج فيه ويحصل على الموافقة اللازمة من سلطات الدواء الحكومية. وفي هذا الصدد فإن شركة فايزر أعلنت أنها ستطلب من هيئة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة تصديقا طارئا للقاح خلال الشهر الحالي، يمكنها من البدء في إنتاجه للتوزيع. وقالت الشركة إنه بحلول نهاية العام الحالي ستكون قد صنعت جرعات كافية لتحصين 15 إلى 20 مليون شخص، وهي كمية قليلة جدا بالنظر إلى حجم الطلب العالمي المتوقع على اللقاح. فبريطانيا مثلا أعلنت على لسان رئيس وزرائها بوريس جونسون أنها حجزت 40 مليون جرعة مزدوجة من اللقاح تأمل في أن تتسلم ربعها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) المقبل. والاتحاد الأوروبي طلب 200 مليون جرعة، بينما ستحصل الحكومة الأميركية على 100 مليون جرعة مزدوجة بالاتفاق مع الشركة ولديها خيار أن تطلب لاحقا 500 مليون جرعة أخرى.
لقاح بايونتك وفايزر لن يكون الأرخص إذ إنه سيباع بسعر 40 دولارا للجرعة المزدوجة مما قد يضعه خارج إمكانيات الدول الفقيرة، وهو ما كان يتخوف منه كثيرون. فشركة فايزر ليست من بين الشركات التي انضمت للمبادرة العالمية التي قادتها منظمة الصحة العالمية لتوفير أي لقاح للكورونا بأسعار في متناول الجميع بما في ذلك الدول الفقيرة. وتشير بعض التوقعات إلى أن شركتي بايونتك وفايزر ستحققان نحو 13 مليار دولار من مبيعات اللقاح، يتم تقاسمها مناصفة بينهما.
وكانت شركة فايزر قد رفضت أي تمويل من الحكومة الأميركية في إطار برنامج التسريع بأبحاث اللقاحات، واستخدمت نحو ملياري دولار من أموالها الخاصة لتمويل تطوير اللقاح. لكن شركة بايونتك، التي لم يتجاوز دخلها السنوي 109 ملايين يورو خلال العام الماضي، حصلت على قرضين من الحكومة الألمانية ومن بنك الاستثمار الأوروبي لتمويل أبحاثها التي بدأتها في وقت مبكر من الجائحة. والآن مع نجاحها في تطوير اللقاح يتوقع أن يقترب دخلها من 7 مليارات يورو العام المقبل.
بالنسبة للدول الفقيرة فإن عليها أن تنتظر اللقاحات المتوقعة من شركات أخرى انضمت لمبادرة منظمة الصحة العالمية لتوفير اللقاح بسعر منخفض لا يزيد كثيرا على قيمة التكلفة، ويتوقع أن يكون في حدود 6 إلى 10 دولارات للجرعة المزدوجة. هذه الشركات تشمل شركة آسترا زينيكا البريطانية - السويدية التي تعمل على تطوير اللقاح مع جامعة أوكسفورد، وكذلك شركة جونسون آند جونسون الأميركية ويتوقع أن تعرض لقاحاتها بأسعار متدنية لتمكين الدول الفقيرة من الحصول عليها. فالعالم يحتاج إلى كميات هائلة من اللقاحات بشكل سنوي على الأرجح، لذلك يؤمل بأن تكون هناك عدة شركات وعدة لقاحات في خطوط الإنتاج والإمداد.
عموما يوجد حاليا أكثر من 100 لقاح في مراحل مختلفة من عمليات التطوير استنادا إلى منظمة الصحة العالمية، منها 20 تقريبا في المراحل النهائية من التجارب البشرية. فهناك لقاحات صينية اثنان منها على الأقل في طور متقدم، مع أن البرازيل أعلنت عن وقف التجارب على أحدهما هذا الأسبوع بعد وفاة مريض تقول تقارير إنه مات منتحرا وليس بالضرورة نتيجة استخدام اللقاح التجريبي. كذلك أعلنت روسيا أن لقاح «سبوتنيك في» الذي تنتجه وبدأت في استخدامه محليا أظهر فاعلية بنسبة 92 في المائة خلال التجارب التي شارك فيها 16 ألف شخص. لكن اللقاح لم يكمل تجاربه النهائية، ولم تخضع البيانات المتعلقة به للتمحيص من هيئات دولية مستقلة لكي يصل بعدها إلى منظمة الصحة العالمية التي تدرس أي لقاح بواسطة هيئة خبراء دوليين قبل اعتماده.
التوقعات أنه مع وجود جهود في دول مختلفة حول العالم، فإن أهم الإعلانات المنتظرة ستأتي من جامعة أوكسفورد وشركة آسترا زينيكا، ومن شركة جونسون آند جونسون، ومن شركة نوفافاكس الأميركية ومستشفى «رويال فري» في لندن، ومن شركتي سانوفي الفرنسية وغلاسكو سميث كلاين البريطانية. هذا لا يعني أنه قد تصدر إعلانات مبشرة أخرى من الهند أو الصين أو بلد آخر في ظل السباق المحموم للقاح.
اليوم الذي تتوفر فيه اللقاحات وتكون متاحة لكل الناس سيكون بالتأكيد يوما عظيما للبشرية انتظره الناس طويلا وهم يواجهون جائحة قلبت موازين الحياة رأسا على عقب، وأودت بحياة أكثر من 102 مليون إنسان، وأحدثت دمارا اقتصاديا سيحتاج إصلاحه لبضع سنوات. لكن المعركة مع الكورونا تبقى متواصلة حتى نعرف كم تستمر فترة فاعلية أي لقاح، وما إذا كان الفيروس ذاته سيتحور على غرار الإنفلونزا. المهم أن الثقة تزداد في إمكانية كبح جماح الكورونا بالوصول إلى مرحلة متقدمة في العلاج وفي التطعيم بما يجعل الفيروس غير مخيف. وحتى إذا لم يمكن القضاء عليه فإن التعايش معه يصبح ممكنا وعاديا.