بقلم - رضوان السيد
إذا كان المتنبي هو مالئ الدنيا وشاغل الناس (العرب) قديماً؛ فإنّ ابن خلدون هو مالئ الدنيا وشاغل الناس جميعاً حديثاً! والدليل على معاصرته الاستمرار في إصدار الكتب عنه، وليس من جانب العرب فقط؛ بل ومن أساتذة الجامعات الغربية، وبينهم من ليس مستشرقاً أو متخصصاً بالشأنين العربي والإسلامي. وآخِرُ ما عرفته أنّ مركز اللغة العربية بأبوظبي يريد هذا العام وهذا الشهر المشاركة في معرض أبوظبي للكتاب باحتفالية خاصة عن ابن خلدون، وقد دعا إليها الدارسين العرب الذين عُنُوا بابن خلدون في العقدين الأخيرين؛ وأعرف منهم اثنين تونسيين: الأستاذ عبد السلام الشدادي الذي أصدر ترجمة فرنسية جديدة للمقدمة، وكتب دراسة ممتازة عن ابن خلدون وفكره وشخصيته وزمانه. والأستاذ الآخر هو إبراهيم شبوح الذي عمل طوال ثلاثين عاماً على جمع أقدم وأوثق مخطوطات «العِبَر». وكان يعتزم من عمّان إصدار تحقيق شامل بالاشتراك مع الأديب إحسان عباس المتضلع بقراءة النصوص؛ فلما توفي عباس عام 2004 أقدم شبوح على إصدار العِبَر في خمسة عشر مجلداً فاخراً، أشرك فيه محققين عدة، وكنت من بينهم؛ إذ نشرتُ معه المجلد الخامس من «العِبَر».
هذا التفصيل للمهتمين بالدراسات الخلدونية. إنما ليس هذا هو الهدف الرئيس من هذه المقالة. فقد اطّلعت عام 2015 على دراسة فريدة حتى ضمن البحوث الخلدونية؛ عنوانها: Applying Ibn Khaldun، نحو إحياء تقليد مهجور في علم الاجتماع. والجدّة في دراسة السيد فريد العطّاس، وهو أستاذ ماليزي يعلّم بجامعة سنغافورة، أنها تقيّم الدراسات الغربية عن ابن خلدون طوال أكثر من قرنٍ ونصف القرن، وترى أنها جميعاً مكتوبة من وجهة نظر المركزية الغربية؛ وسواء باعتباره صاحب نظرية في علم الاجتماع، أو باعتباره صاحب نظرية في قيام الدول. ويعود الدارس على أعقابه فيدرس قيام الدولة العثمانية والأُخرى الصفوية من وجهة نظر ابن خلدون (أي عصبية دعوة دينية جديدة) ويعتبر أنّ القراءة الخلدونية في حالتيهما ممكنة، وإن كنتُ لا أعرف فائدة ذلك؛ لأنه يلقّح المتَحَد العصبي والديني بالإقطاع الذي يرى أنّ له صيغة ووظيفة مختلفة عن الشبيه الأوروبي في حالتي الصفويين والعثمانيين!
الجديد في مقاربة العطّاس عودته في القسم الأخير من دراسته إلى الزمن الاستعماري وخطابه لدى إدوارد سعيد والمفكرين الهنود اليساريين وبعض مفكري أميركا اللاتينية، ثم صيرورته إلى فحص العصبية والدعوة في دولة ما بعد الاستعمار. وهو لا يفعل ذلك إلا بعد المرور على زمن كارل ماركس ونمط الإنتاج الآسيوي، والذي يرى ضرورة الدولة المركزية الواحدة لتنظيم الري في بلدان الأنهار الطويلة بمصر وبلاد ما بين النهرين ونواحٍ بالهند والصين (قارن بكارل فيتفوغل والدولة الاستبدادية، 1924). يفاجئنا العطّاس في الزمن الطويل للاستعمار ونظام العالم الحديث بالمقارنة بين قيام الدولة السعودية وقيام النظام المعاصر بسوريا وبينهما قرابة ثلاثة قرون (!). وحجته بشأن الدولة السعودية، أنّ ظاهرة الإحياء الديني أصيلة في الإسلام. وتفسير ظاهرة الشيخ والأمير (القائم على العصبية القبلية) ظلَّ سائداً لفترة طويلة؛ أمّا في السنوات الأخيرة فإنّ عدداً معتبراً من الدارسين صار يذهب إلى أنّ اعتبارات الدولة الواحدة بوسط الجزيرة هي التي تقدمت من دون أنهارٍ ومن أجل سلطة جامعة تحقّق الأمن، أمن الحواضر والبوادي وطرق التجارة.
ولا شَبَه على الإطلاق بين النموذجين السعودي والسوري. فالعلويون ما كانوا عصبية، وإنما السلطة العسكرية هي التي صنعت منهم خلال عقود عصبية للنظام. أما الإحياء الديني فما كان عندهم، بل عند الحركات الدينية السنية، وليس في سوريا فقط؛ بل في سائر البلدان. وبعيدٌ أيضاً اعتبار الإحياء العلوي إحياءً قومياً، فالحزب القومي السوري كان هو الآصَلُ في صفوفهم. ولذلك؛ فإنّ نمطاً عجيباً من أنماط السلطات وليس الدول ظهر في العالمين العربي والإسلامي، وهو أنظمة العصبية العسكرية، إذا صحَّ العبير، وخلال عقدٍ ونصف العقد بعد الاستقلال وليس أكثر انتشرت الأنظمة الانقلابية العسكرية في عشرة بلدانٍ عربية، فضلاً عن البلدان الإسلامية. ولماذا؟ لأنّ الجيش وحده كان الفئة الأكثر تنظيماً بين قوى المجتمع وفئاته. وفيما عدا مصر، التي كانت فيها ثقافة دولة قديمة؛ فإنّ الأنظمة العسكرية ظلّت أنظمة فئوية؛ ولذلك كانت تحصل عليها ولا تزال انشقاقات، وغالباً بدعمٍ من تدخلٍ خارجي. أما الإسلامويات المقاتلة فما عادت حركات إحيائية للتجديد والاستبدال، بل صارت عصابات جهوية مسلَّحة تملك نموذجاً للسلطة قبل تاريخي أو فوق تاريخي. ولذلك يسهل دائماً القضاء عليها بالمساعدة الخارجية. وإذا بقيت في بعض البلدان فلأنّ جهاتٍ أُخرى تدعمها في وجه العسكر. وهذا هو الوضع في سوريا ولبنان والعراق وليبيا واليمن... والسودان والصومال. إنّ الذي يعين الميليشيات والعسكر على الاستدامة على حدٍ سواء، هو تساويها في تضاؤل الشرعية وانحياز هذه الفئة الاجتماعية أو تلك إليها. وعلى الدوام التدخل الخارجي إلى جانب فئة العسكر أو فئة الميليشيا.
ما تطلع ابن خلدون إلى نمطٍ للسلطة غير ما عُرف عبر التاريخ الإسلامي وهما في وعيه ومتابعته العرب والبربر الشعبان اللذان توافر فيهما في نظره الـIdeal Type للعصبية والدعوة. ولو تأمل الوضع قليلاً بعد مجيئه للقاهرة واستقراره فيها، لتنبّه إلى أنّ الدولة المملوكية تشكّل نمطاً آخر هو نمط العصبية العسكرية أو نمط الدولة بحدّ ذاتها، من دون عصبية قبلية أو دينية. وقد ذكر ما يشبه ذلك في سيرته في آخر التاريخ. وهو عرف أحفاد جنكيز خان بالمشرق، وقابل تيمورلنك بدمشق، وكلا النموذجين كانت عنده عصبية قبلية غلّابة، بل اتحاد قبلي للسلب والنهب على مدى العالم، ومن دون دعوة لحسن الحظ! وهو يعنون لتاريخه بالعرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، فهل يقصد بذوي السلطان الترك؟ على كل حال النمط الخلدوني لدورات السلطة عملٌ بديع. والعطاس قدم عملاً طيباً لاستكشافٍ جديد، لكنه في كثيرٍ من أجزائه غير مقنع!
همُّنا هو الدولة الوطنية التي تحقق الاستقرار والأمن والكفاية للناس. وهو الأمر الناقص في دولٍ عربية عدة والأعداد إلى تزايد. والمسؤولون العرب والدوليون ينذرون من الشر المستطير إذا استمر القتال في السودان. ولا يخلو أسبوع من تشاوُرٍ بين العرب لاستعادة سوريا، وليس من أجل أمنها وشعبها فقط؛ بل وللمضار والشدائد التي تنال من الجميع بسبب الأوضاع فيها: فهل يمكن الخلاص من سيطرة الجيوش والميليشيات معاً باعتبار أنّ أحدهما يستدعي الآخر؟!