في جدوى الكتابة وفي فائدتها

في جدوى الكتابة وفي فائدتها!

في جدوى الكتابة وفي فائدتها!

 العرب اليوم -

في جدوى الكتابة وفي فائدتها

بقلم - رضوان السيد

شاع بين اللبنانيين والتوانسة والمغاربة ونقل عنهم مثقفون عرب آخرون، ممن درسوا في فرنسا ويقرأون الفرنسية، مصطلح: «المثقف الإنتلجنسي»، وهو مثقف فريد من نوعه: ضد النظام في أحايين كثيرة، وضد الدولة أحياناً. وإذا تطورت معارضته للوضع السائد فقد يصبح شعبوياً راديكالياً وينزل إلى الشارع مثلما فعل جان بول سارتر. إدوارد سعيد مثقف إنتلجنسي أيضاً، وقد كتب عن ذلك، وصارت مقولاته تياراً تجاوز نقد الاستشراق والثقافة الإمبريالية إلى آفاقٍ وهُوامات ما توقّعها هو نفسه. فعندما كتب مُريده السابق وائل حلاّق «قصور الاستشراق»، كان يقصد قصور إدوارد سعيد نفسه؛ لأنّ سعيداً كان يأخذ على الغرب خيانته لقيم التنوير، أما وائل حلاّق فيعتبر أنّ مصيبة الغرب والعالم في أطروحات التنوير بالذات!

     

 

             

 

المثقف الإنتلجنسي يعتبر نفسه مسؤولاً مسؤوليةً شاملة. وقد عبّر ميشال فوكو عن ذلك عندما كتب كتابه: يجب الدفاع عن المجتمع (في مواجهة السلطة!). ومع أنني ما درستُ في فرنسا بل في ألمانيا، فقد تأثرت بأطروحة المسؤولية مع قلةٍ من عرب الأنجلو - ساكسون، إنما باتجاه نصرة الدولة وليس ضدها. لقد اعتبرنا أنّ المسؤولية تتمثل في الدفاع عن تجربة الدولة الوطنية في ديارنا استنقاذاً وتجديداً. لقد كتبتُ واستكتبتُ كثيرين من عربٍ وأجانب في مجلتي «الفكر العربي» و«الاجتهاد» في موضوع الدولة، وعبّرت أحياناً عن سأَمي من الحملة على دولنا بحجة الاستبداد أو استيلاء العسكريين! لكنني لم أُفلح في صوغ ذلك في عبارةٍ موحية إلاّ في عام 2011-2012 عندما عنونت لمداخلات عدة: كنا نخاف من الدولة، وقد صرنا نخاف عليها!

على كلّ حال، خلال عقدٍ ونصف العقد ما بقيت مشكلةٌ ولا بقي بؤسٌ في العالم إلاّ ونزل على رؤوس الدول العربية وعلى رؤوس شعوبها فرداً فرداً. وبالطبع، تجوّل كُلُّ الكتّاب العرب بين المشكلات، سواء في مطالعاتهم في الصحف أو في بحوثهم وكتبهم. قال لي أحد الزملاء الكبار: أحياناً يخطر لي أنّ أكتب عن أربع أو خمس مصائب في الستمائة كلمة التي أنشرها! ففاجأه أحد الحاضرين: لا يمكن منعك من الاهتمام، إنما ما الفائدة؟!

كنا نعتبر أن الحكم العسكري مشكلة، ومثله الإسلام السياسي. وعندما وقع حَدَث عام 2001 ما عاد هناك اهتمام لدينا إلاّ بالإسلام السياسي والتطرف والإرهاب. فالإسلام السياسي يُفسد الدين لإيهامه بوجود حلٍ ديني لمشكلاتنا، وعندما تتالت أحداث عام 2011 الخطيرة، ما فرحنا كثيراً أو طويلاً، بسبب نجاحات الإسلامويين المذهلة في دولةٍ دهريةٍ حديثةٍ على الأقلّ منذ عام 1805! قال لنا الأميركيون: اصبروا فالانتخابات التي أتت بهم يمكن أن تذهبَ بهم، وقلنا جميعاً: هذا ممكن لكنها مصر ولا يمكن الصبر إلى هذا الحد، هذا يشبه ما وصف به الجبرتي احتلال الفرنسيين لمصر عام 1799، هو انقلاب الزمان. إنما لننتظر ما يحدث في تونس، وتقدم الإسلامويون في تونس بالتدريج حتى سيطروا، إلى أن أزالهم الأمن، إنما إلى أين؟! وفي السودان ما وضعنا آمالاً كبيرةً بسبب ما عاينّاه وعانيناه خلال السنوات العشر. إنّ ما يحصل في السودان هذه الأيام يُنسي كلَّ فظائع حكم البشير وإسلاموييه، لكن كيف ننسى والميليشيا المقاتلة والتي تزعم أنّ أعدادها بلغت الأربعمائة ألف هي من صناعة مخابرات البشير في الأصل!

...ويقترح زملاءُ لنا ألا نتابع التطورات العسكرية والأمنية في دول الاضطراب المعروف؛ لأننا لا نعرف كامل الحقيقة من جهة، ولأنه لا فائدة لأحدٍ في متابعتنا. وبالفعل، فإنّ عدداً من كبارنا في القدْر والعمر انصرفوا إلى استعراض ذكرياتهم الحلوة والمرّة. وقبل أيام قرأت في جريدة «الشرق الأوسط» مراجعةً لكتاب أصدرته تحية عبد الناصر، حفيدة الرئيس - وهي أستاذة بالجامعة الأميركية بالقاهرة - عن أدب أو فنّ السيرة الذاتية، والتي يكثر السياسيون والمثقفون العرب الكتابة فيها في العقود الأخيرة. هل في ذلك إفادة؟ ثم لماذا السؤال أو لماذا هذه العملياتية أو النزعة التقنية التي لا تأبه للأفكار، وتلتمس الفائدة العملية المباشرة؟! ربما يكون في ذلك عبرة أو اعتبار. وكما أفهمنا الأستاذ إبراهيم شبّوح محقّق تاريخ ابن خلدون؛ فإنّ مصطلح الاعتبار عنده لا يعني الاتعاظ، بل يعني المقايسة، ليس لأنّ التاريخ يعيد نفسه، بل لأنّ هناك قواعد كشف التاريخ عن بعضها، ويكشف الحاضر عن البعض الآخَر بغير السخرية الماركسية السوداء!

وكما انصرف بعضنا إلى المذكرات وكتابة الروايات، انهمك البعض الآخر خلال السنوات الأخيرة في تتبع انهيار النظام العالمي الأميركي أو هكذا يزعمون! ولأنّ الباحثين الأميركيين هم الأكثر كتابةً في الموضوع وانشغالاً به، فنحن نقتني جديد الكتب ونراجعها. وكما يظهر غرامنا بكل جديدٍ ولو كان مأساوياً؛ فقد سُرّ كثيرون منا بظهور الـ«بريكس» باعتبارها جبهةً في وجه الأوحدية الأميركية تصنعها دولٌ كبرى ووسطى ناهضة. لكنّ الأدوار التي تلعبها الصين وروسيا في القارتين لا تختلف كثيراً عن صنائع الأميركان والفرنسيين في شتى الأنحاء وفي بلدانها هي من مثل مشكلات المناخ وإلى الحكومات العسكرية في دول الساحل: فلماذا يكون الروس وعندهم «فاغنر» الشهيرة أفضل من الجنود الفرنسيين والأميركيين الذين يزعمون مصارعة الإرهاب؟!

ويظل المثقفون الإنتلجنسيون رغم كل شيء انتقائيين. أزعجتني الظواهر الجديدة في الإسلاموفوبيا من مثل إحراق المصحف في السويد والدنمارك، ومنع المراهقات من ارتداء العباءة في المدارس بفرنسا؛ لكنّ الزملاء لاحظوا أنها أحداث منفردة، ولا يجوز الاهتمام بها باعتبارها ظاهرة! وكذلك الأمر مع الظواهر الأخلاقية الجديدة مثل المثلية وتغيير الجنس واستعباد الأطفال للأهواء باسم الحرية! هل هو تجاهُلٌ للمسؤوليات؟ هم يقولون لا؛ إنما ينبغي أن يظلّ الأمر بأيدي المختصين!

ما الهدف من إظهار القَرَف من ذلك كلّه؟ ليس الاستحثاث للتوقف عن الكتابة، بقدر ما هو التبصر في قضايا الثقافة ومشكلات الكلمة المكتوبة في الأزمنة الجديدة. يقال إنّ فلاناً أو فلانة يتابعه الملايين على وسائل التواصل، ولا يمكن لأيٍ منا الزعْم بهذه الشعبية. ولا تزال صغائر الأمور في نظرنا تحظى بتغطيةٍ هائلةٍ (الرجل الذي قبَّل رياضية!) إذا حصلت في الغرب، وهو الغرب الذي نزعم انهياره وانقضاءه. فما يزال «الغرب» الأوروبي والأميركي هو المثال ونظام العيش على مستوى العالم حتى في شذوذاته ونظرياته العامة بشأن الجندر والنوع! السؤال الحقيقي: لماذا يؤثرون ونحن لا نؤثر رغم أننا ننشر بالإنجليزية أيضاً؟

المشكلة ليست في الكتابة أو عدمها، بل في الاعتبار كما يقال. ولن يحصل ذلك بالعودة إلى جلْد الذات، والتماس الفائدة القريبة، بل بالإصرار أنه لا بديل عن الدولة التي هي مرآتنا أمام العالم، وبالإصرار على أنه لا بد من استعادة السكينة في الدين، واستعادة علاقات السلم مع البشر. وهي مسائل أساسية في حياتنا ومستقبلنا، ويراها العالم أو يشاهدها. أما مجتمعاتنا ففيها الجمهور الذي ينبغي أن نستمع إليه فيستمع إلينا!

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في جدوى الكتابة وفي فائدتها في جدوى الكتابة وفي فائدتها



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 20:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
 العرب اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس

GMT 07:06 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مقتل 6 في غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين بغزة

GMT 17:33 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

حرب غزة ومواجهة ايران محطات حاسمة في مستقبل نتنياهو

GMT 14:05 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab