ما بعد الاستشراق وما بعد الاستعمار

ما بعد الاستشراق وما بعد الاستعمار

ما بعد الاستشراق وما بعد الاستعمار

 العرب اليوم -

ما بعد الاستشراق وما بعد الاستعمار

رضوان السيد
بقلم- رضوان السيد

في هذه السلسلة من المقالات في شهر رمضان، التي تشبه السيرة الذاتية الفكرية، ما كنتُ أريد العودة إلى الاستشراق الذي أتعايش معه منذ 60 عاماً، منذ قرأت كتاب أستاذنا محمد البهي «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» (1957 - 1959). لكنّ مقالة الأستاذ سعد البازعي بصحيفة «الشرق الأوسط» بعنوان «النقد ما بعد الاستعماري...» دفعتني لإعادة النظر في المسألة، مسألة الدراسات الإسلامية في الغرب، التي تتعرَّض لتحدياتٍ غير استشراقية (إذا صحَّ التعبير) منذ عقود.
صدر كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» (1977)، وفي العام نفسه صدر كتاب وانسبورو «دراسات قرآنية»، كما صدر كتاب باتريشيا كرون ومايكل كوك عن الهاجرية، وهاجر أم إسماعيل، كأنما أقام العرب من ذرية إبراهيم وإسماعيل «ديناً»، يواجهون به دين ذرية إبراهيم من سارة فإسحاق ويعقوب! وهكذا، فعندما صدر كتاب إدوارد سعيد ضد الاستشراق الكلاسيكي، الذي هاجمه إدوارد سعيد بحسبانه نتاجاً استعمارياً، وضد أُصول الإسلام في مصادره العربية، ولصالح أصولٍ أخرى يفترضها هؤلاء قسْراً لما صار يُعرف باسم الإسلام!
منذ العام 1978، وإلى آخر مقالة لي في كتاب «المسبار» قبل شهر، كتبت كثيراً عن الاستشراق وعما بعد الاستشراق، وأبرزها كتابي «المستشرقون الألمان» (2007 - 2012). وقد اختلفت مع إدوارد سعيد في تصوره النقدي الشمولي، لكنني سلّمتُ له بالحق في إجراء كشف حسابٍ، بعد أن وصلت الحضارتان إلى ذروة التأزم، في العلائق والاستقطابات. بيد أنّ عوالم الاستشراق والإسلام ليست عوالم تضادٍ وتناقض، بقدر ما هي على الدوام عوالم تداخُلٍ كالدائرة التي لا يُدرى أين طرفاها.
ننشغل منذ 3 عقودٍ بموضوعٍ آخر، بقدر ما تُشعر به الآخرية من تغايرٍ وتقاطعٍ هو موضوع أو حقل الدراسات الإسلامية في الغربين الأوروبي والأميركي. إذ لا تخلو جامعة في الغربين من أقسامٍ أو دوائر أو معاهد عن الإسلام في معانيه ودلالاته وسوسيولوجياته ومصائره. وفي حين يصرّ مراجعون جدد واستراتيجيون على غرابة الإسلام وغربته عن عوالم الأديان والحضارات، يصرُّ آخرون على تجذر الإسلام في حيوات الغرب وحضارته ومستقبله. ويستخدم كلا الفريقين لإثبات دعواهما نماذج وظواهر وكتباً ودثائر من التاريخ والحاضر. ولمتابعة القراءة النقدية لهذا الخلاف الشاسع في البيئات العلمية والمنهجية الواحدة أو المقاربة؛ قمنا عام 2018 بكرسي الشيخ زايد للدراسات العربية والإسلامية بالجامعة الأميركية في بيروت بتنظيم مؤتمر حضره مئات الدارسين للإسلام بالغرب والشرق، وصدرت أعماله عام 2019 في كتابٍ بعنوان «نحو إعادة بناء الدراسات الإسلامية». ويصل الأمر ببعض الدارسين البارزين إلى إنكار أن يكون الإسلام ديناً، أو أنه لا يصلح لأن يكون العمل عليه علماً. في حين يذهب آخرون إلى أنه دينٌ وعلمٌ وحياة مزدهرة في المشرق كما في الغرب.
في العالم الفكري والثقافي لما بعد إدوارد سعيد، تصارعت أصوليتان على الإسلام وتفسيره ودراساته وحيواته الحاضرة؛ أُصولية المراجعين الجدد الذين حملوا على الإثباتية الساذجة للاستشراق الكلاسيكي (أي عكس ما ذهب إليه إدوارد سعيد)، وراحوا يستكشفون للإسلام والقرآن أصولاً أُخرى من دثائر الديانات والمذاهب في العصور الكلاسيكية المتأخرة. والأصولية الأُخرى هي أصولية الأصالة التي تناضل من أجل قطيعة كاملة مع عالم الأفكار والديانات، ومع ماضي وتاريخ الحضارة العربية الإسلامية. فالقطيعة مع العالم الأول باعتباره تغريباً مُداناً، والقطيعة مع العالم الثاني باعتباره انحرافاً عن تماميات النصّ الباقي فوق التاريخ وفي صراعٍ مع الحاضر. ولذلك ففي حين سعت الأصولية الغربية لنفي دراسات الإسلام عن الأقسام العلمية بالجامعة ووضعه في موضع العدوّ؛ فإنّ الأصولية الأخرى ما عاد من همّها غير تطبيق الشريعة في مواجهة الدولة الوطنية العربية والإسلامية المستغربة والمعادية للإسلام والعاملة لصالح الغرب الاستعماري! وفي حين ذهب المراجعون الجدد إلى اعتبار الإسلام ومجتمعاته بيئة للعنف لا بد من التصدي له حفظاً للحضارة الإنسانية واستقرار الدول - ذهب الإسلامويون إلى اعتبار الشريعة سلاحاً في اليد ضد الدولة الوطنية الحديثة. وبالنسبة للمراجعين الجدد، فإنّ إدوارد سعيد يساري عاملٌ ضد مصالح الولايات المتحدة، وضد الديمقراطية الإسرائيلية. أما أصوليونا فلم يترددوا في مرحلة ما في استخدام مقولات إدوارد سعيد باعتبارها اعترافاً بشرور الغرب، على طريقة «وشهد شاهدٌ من أهلها».
وفي ضوء المتابعات المستمرة منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، تطلُّ في العقدين الأخيرين مرحلة ثالثة، عاد النقاش فيها إلى داخل الجامعات، حيث تراجع استخدامه في الاتجاهين عسكرياً وأمنياً وفي السياسة الخارجية. ولا يعود ذلك إلى مناعة الأكاديميا وقوتها وإمكان حلّ الخلافات بالنقاش بين جنباتها؛ بقدر ما يعود ذلك إلى ظهور الوجه الحقيقي للصراعات في العالم، وأنها ليست دينية، بل هي استراتيجية وعلى الموارد والحدود والمجالات في البحار والمحيطات. كلام هنتنغتون عن صراع الحضارات ما عاد يجد له مصداقاً، وها نحن نرى سائر الدول الكبرى واستخباراتها تستخدم القاعدة و«الدواعش» وثوار الساحل العظام، ولماذا نتحدث عن الدول الكبرى، فإيران وتركيا استخدمتا أيضاً هؤلاء وتلاعبت بهم.
تعود متغيرات الأكاديميا إلى 3 عوامل؛ بحوث الدين المقارن والتأويليات التي أفضت إلى مقاربات لاهوتية وأخلاقية بين الأديان والفلسفات؛ فزاد دخول الإسلام ضمن بحوث الديانات العالمية بدلاً من إفراده ومحاصرته في الاستشراق. والعامل الثاني تحرك البابا فرانسِس لصالح علائق أخرى بالمسلمين؛ وقد دفع ذلك المسيحيات الأخرى والديانات الآسيوية إلى الالتفات للظاهرة الإسلامية باعتبارها حقيقة يمكن العيش معها، وأنها تستحق فهماً أفضل. والعامل الثالث أنّ نصف العاملين والعاملات في أقسام الدراسات العربية والإسلامية بالغرب صاروا عرباً ومسلمين. وهم يطلّون على تأويلياتٍ كبرى في المجال الثقافي والحضاري القديم، وعلى أعمال سوسيولوجية وتاريخ الأفكار في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. وصحيح أنّ جدالاتهم مع الأصاليين الغربيين مستمرة، لكنّ تلك الجدالات ما عادت أولويات.
أين ذهبت دراسات النقد الاستعماري؟ لقد ازدهرت كثيراً، لكنها فارقت الاستشراق منذ مدة. ودخل إليها باحثون هنود، ومن أميركا اللاتينية. وقد نسي الأستاذ سعد البازعي في مقالته بـ«الشرق الأوسط» (10 – 4 - 2023) دور طلال أسد في تطوير تيار داخل الأنثروبولوجيا المعاصرة في النقد الاستعماري. بيد أنّ هذه التوجهات من جانب التيارات الإنتلجنسية ما تلبثت عند النقد الاستعماري في الماضي والحاضر، بل مضت باتجاه نقد نظام العالم الغربي الذي صار نظاماً للعالم بدولته الإطلاقية الصانعة لشقاء العالم واستنزافاته. وهكذا، فنحن لم نعد في عوالم ما بعد الاستشراق، ولا عوالم النقد الاستعماري؛ بل في عالم بحوث المعنى والقيمة. ولا بد أن نتعلم من جديد لكي نفهم أو لنتعلم كيف نفهم.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ما بعد الاستشراق وما بعد الاستعمار ما بعد الاستشراق وما بعد الاستعمار



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 06:06 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

راجعين يا هوى

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab