بقلم : محمد أمين
فى ليلة ساحرة، كنت أشاهد كوكب الشرق أم كلثوم تغنى على قناة روتانا كلاسيك من أجمل أغانيها «أغدًا ألقاك» للشاعر السودانى الهادى آدم، وألحان الرائع محمد عبدالوهاب، وكنت فى الوقت نفسه أقرأ كتاب أمين معلوف، الكاتب اللبنانى الكبير، عن «غرق الحضارات»، وسرحت بعيدًا مع الأغنية والكتاب كيف كانت مصر فى ذلك الزمان، وهى تفتح أبوابها لكل المواهب والأدباء العرب!.
فهذا سودانى ينظم شعرًا تغنيه أم كلثوم، وهذا لبنانى يتحدث عن مصر الجنة.. وبالمناسبة، فقد شكّل الشوام جزءًا كبيرًا من الوجدان العربى والمصرى، وأسهم السودانيون أيضًا فى هذه الملحمة الثقافية. وبهذه المناسبة، أنقل لكم مقتبسات مما قاله أمين معلوف عن مصر، ما زاد من إحساسى فى تلك الليلة بالجمال!.
يقول «معلوف» إنه يريد فقط أن ينقل بعض الإحساس الذى نقله إليه والداه، وهو الإحساس ببلد استثنائى، كان يعيش حقبة مميزة من تاريخه، وكانت أمه المصرية تُحدثه مرارًا وتكرارًا عن المانجو والجوافة، التى لا يصادف المرء عطرها فى أى مكان من العالم، ومخازن شيكوريل الكبرى فى القاهرة، التى تضاهى إلى حد كبير محال هارودز فى لندن وجاليرى لا فاييت فى باريس، ومقهى جروبى، الذى يرقى إلى مصافّ مقاهى ميلانو أو فيينا، دون أن تغفل شواطئ الإسكندرية المديدة والمسترخية على البحر المتوسط.
تخيل فقط هذا الإحساس، فكما يقول كان الأمر ينطوى بالطبع على ذلك الحنين العادى الذى يجتاح أى شخص فى خريف العمر، لدى استحضار مرحلة الشباب.. ولم يكن الأمر يقتصر أو ينحصر فى كلام أمى، فقد سمعت أشخاصًا كثيرين يتحدثون عن مصر، وقرأت شهادات كثيرة.. كانت جنة اسمها مصر، موجودة بالفعل لفترة من الزمن.. كان يتحدث عن فترة الأربعينيات حتى مطلع ثورة 23 يوليو!.
ويحكى عن أزمة عميد الأدب العربى طه حسين مع الأزهر عندما تكلم عن الشعر الجاهلى كان ذلك عام 1926، عندما اندلع سجال بعد نشر كتاب الشعر الجاهلى، مما أدى إلى تكفيره، ويقارن بينه وبين إرنست رونان، الذى سمى يسوع المسيح رجلًا استثنائيًّا، ولم يعتبره إلهًا، وانتهت المعركة مع طه حسين بأن تم إيقافه عن العمل فى الجامعة.. ولكن حين طلب شيخ الأزهر، وهو أعلى سلطة دينية فى البلاد، أن يحاكم رفضت الحكومة المصرية المضى أبعد من ذلك، وقالت إنه مجرد سجال أكاديمى عادى، لا ينبغى أن يتدخل فيه القضاء.. وهو درس كبير يرصده أمين معلوف ويسجله فى كتابه القيم الرائع!.
ورغم الهجوم على طه حسين من الأوساط المتزمتة كان ينظر إليه معاصروه نظرة إكبار وإجلال، وعُيِّن فى أرفع المناصب عميدًا لكلية الآداب، ثم رئيسًا لجامعة الإسكندرية، ثم وزيرًا للمعارف، وكان أول قرار اتخذه هو إقرار مجانية التعليم فى حكومة الوفد قبل ثورة الضباط!.
وأخيرًا، ينتهى أمين معلوف إلى مقولة: «أن يستطيع رجل مكفوف الوصول إلى هذه الدرجات من الارتقاء، فإنما يدل أبلغ دلالة على طه حسين أولًا، ولكنه يدل قبل كل شىء على مصر، فى العصر الذى عاش فيه!».