بقلم: عادل درويش
الإضرابات مستمرة في المملكة المتحدة في المرافق العامة بأعداد لا يتسع المجال لحصرها.
ذكرنا سابقاً، أن أهداف معظم الإضرابات تبدو سياسة خاصة، والكثير من قادة النقابات (التي تمول حزب العمال المعارض) لهم ميول اشتراكية وماركسية، وكرروا نداءاتهم بإسقاط حكومة المحافظين.
كما تواجه البلاد أزمة اقتصادية، بارتفاع معدلات التضخم وسعر فائدة الإقراض، وأسعار الطاقة، وتدهور خدمات الصحة القومية. رئيس الوزراء الجديد (الثالث هذا العام) ريشي سوناك، انخفض تأييده في استطلاعات الرأي قبل أعياد الميلاد إلى الثلث فقط، وارتفعت نسبة من «لا يثقون به»، بينما تفوق زعيم المعارضة العمالية، السير كيير ستارمر عليه بثلاث نقاط (الأكثرية لا يثقون به أيضاً). الاستطلاعات نفسها غير مطمئنة لحكومة المحافظين، إذ انخفضت نسبة التأييد لها إلى الخُمس فقط (22 في المائة) في مقابل أكثر من الثلث (37 في المائة) للعمال. وما زاد الطين بلة لسوناك أن 62 في المائة، يعتقدون أنه يقود البلاد في الاتجاه الخاطئ مقابل 14 في المائة يعتقدون أن بوصلته في الاتجاه الصائب، مما دفعه إلى المقامرة بطرح خمسة أهداف طلب من الناخب أن يحاسبه عليها قبل الانتخابات المقبلة (موعد أقصاه عامان من الآن).
إعلان زعيم سياسي (وهو في الحكم) التزامه بتحقيق أهداف أمام الناخب، مجازفة غير مضمونة في النظام البرلماني الديمقراطي؛ بينما تكون أقل مجازفة في نظم الانتخاب المباشر الجمهورية كفرنسا مثلاً، فالحكومة التي يعينها الرئيس المنتخب تشبه هيئة تنفيذية من التكنوقراط المتخصصين. والناخب في النظام الجمهوري يفضل أو يرفض الرئيس حسب اتجاهاته (اشتراكياً كان، أو ليبرالياً أو محافظاً). أما مجلس الوزراء في النظام البرلماني الوزاري (كبريطانيا) فيكون من نواب برلمانيين يعرفهم الناخب مباشرة في الدوائر الانتخابية؛ أيضاً الناخب أمامه خيار بديل هو حكومة الظل (العمال بسياسة بديلة عن سياسة الحكومة التي اختبرها الناخب، وأيضاً يعرف وزراء الظل بالأسماء كالمالية والداخلية والخارجية والمعارف والصحة، وأتيح للناخب معرفة اتجاهاتهم السياسية مسبقاً قبل تأليف الحكومة حال حصولهم على الأغلبية في الانتخابات.
فبعد عشرين ساعة بالضبط من المؤتمر الصحافي الذي دعانا إليه سوناك، عقد زعيم المعارضة العمالية ستارمر مؤتمره ليقدم ما زعم أنه سياسة بديلة لخطط سوناك في النقاط الخمس. لكن ما قدمه ستارمر بدا وكأنه جدل أو مناقشة بشأن سياسة العمال القادمة وهجوم على الحكومة الحالية، مستغلاً انخفاض شعبيتها وحالات الإضراب، أكثر منه مشروع الحكومة البديلة.
الزعيم العمالي - الذي عارض البريكست، ودعا لاستفتاء جديد لإعادة بريطانيا إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي مما كلف العمال خمسين دائرة انتخابية في الانتخابات الأخيرة - وظف شعار حملة البريكست «استعادة التحكم في السياسة»، لترويج سياسته، مفسراً الشعار بمنح المقاطعات (عن طريق المجالس البلدية) صلاحيات أكبر في تحديد سياسة الطاقة والميزانية المحلية. ولتبرير ذلك انتقد - بشكل هجومي - نظام وستمنستر (أم البرلمانات وأعرق مؤسسة ديمقراطية في العالم) بأنه شديد المركزية، رغم أن ستارمر نفسه، جزء من النظام البرلماني.
وبعكس رئيس الوزراء سوناك في إجابته على أسئلتنا في المؤتمر الصحافي، لم يستطع الزعيم العمالي الإجابة عن أسئلة محددة بالتفصيل. فمثلاً تجاهل خطابه ما يعرف بـ«غزو القوارب»، أي الهجرة غير الشرعية عبر بحر المانش بقوارب مهربي البشر (وتحتل مرتبة متقدمة في أولويات الناخب وكانت التعهد الخامس في قائمة وعود رئيس الحكومة الأربعاء). وعندما سئل ستارمر لماذا لم يتطرق إليها في تحديد أولويات سياسته وجه اللوم لحكومة المحافظين في «تباطؤها في التعامل مع استمارات طلب اللجوء السياسي»، رغم أن الغالبية العظمي من مهاجري بحر المانش شباب من الذكور في سن الخدمة العسكرية، وقادمون من أوروبا، حيث لا يوجد تهديد يستدعي اللجوء إلى بلد آخر.
ولأن خدمات الصحة العامة أصبحت «بقرة مقدسة» في وجدان الشعب البريطاني، ركز زعيم المعارضة عليها، متهماً الحكومة بعدم توفير التمويل اللازم (إيجاد حلول لخدمة الصحة كانت التعهد الرابع في قائمة سوناك). وتاريخياً في كل انتخابات، يميل الرأي العام للوثوق بالعمال في دعم خدمات الصحة أكثر من ثقته بالمحافظين. لم يقدم ستارمر إجابة واضحة عن حل سريع لمشكلة المستشفيات أو تمويل قطاع الصحة. وفي مقابلة منفصلة مع مجموعتنا الصحافية قالت رايتشيل ريفز (وزيرة مالية حكومة الظل التي قدمت ستارمر في المؤتمر الصحافي) إن مصدر التمويل سيأتي من إنهاء الإعفاءات الضريبية لأصحاب الأعمال غير المقيمين. وبصرف النظر عما إذا كان المستثمر بريطاني الجنسية أم لا، فإن تسجيل مصادر الدخل من الخارج يعطيه الحق في دفع ضرائب تساوي 715 ألف دولار سنوياً (كانت 355 ألف دولار فقط أثناء حكم العمال) والدخل من الخارج يحاسب عليه في مقره الضرائبي لا بريطانيا، ضمن اتفاقيات دولية. تقدير دراسة الخزانة أن فرض الضرائب على هؤلاء سيقدم للحكومة ما يساوي أربعة مليارات دولار (عددهم نحو سبعين ألفاً). وبجانب أن السياسة قد تدفعهم لترك بريطانيا، مما سيحرم الخزانة مما قيمته عشرة مليارات دولار، فإن المسؤولين عن قطاع الصحة يقدرون الاحتياجات بعشرين ضعفاً (نحو 80 مليار دولار) ما ستجنيه سياسة العمال.
الزعيم العمالي وعد بمعارضة مشروع قانون الحكومة لإجبار النقابات العمالية والمهنية على توفير حد أدنى من الخدمات «لضمان السلامة والأمن للمواطنين»، عند عرضه في البرلمان في الأسابيع المقبلة. وهي ضمن عدة إجراءات تشمل وعود سوناك الثلاثة الأخرى (معالجة التضخم، وتنمية الاقتصاد، وتقليص المديونية العامة)، ويمكن بالفعل معالجتها قبل الانتخابات العامة، إذ من المتوقع معالجة أزمة أسعار الوقود التي أدت إلى التضخم والمديونية، والتعامل معها وإنهاء الإضرابات سيساعد على تنمية الاقتصاد وتقليص المديونية... أما الوعود بمعالجة خدمة الصحة العامة (وهي مشكلة إدارة مؤدلجة أكثر منها قضية تمويل) والتعامل مع الهجرة غير الشرعية عبر المانش، فمن المشكوك فيه إمكانية سوناك على تنفيذ وعوده، إلى جانب أنه رغم كفاءته كوزير مالية ومستثمر، فإنه لا يملك موهبة بوريس جونسون في الخطابة أو خفة دمه مع الجماهير، أو قدرة زعماء كتوني بلير أو مارغريت ثاتشر على إقناع الجماهير بالانضواء تحت لوائه.