بقلم: عادل درويش
الرأي العام، تعبير يتردد في الوسائل الصحافية، لكن، كم منا فكر ملياً في تعريف له؟
هل هو نسق تفكير واحد في مجتمع بأكمله؟
التعبير يلقي به الصحافيون، كصناع «للرأي العام»، في وجه المتفرجين والقراء، سواء في الديمقراطيات التي تسعى حكوماتها لإرضاء أغلبية «الرأي العام»، أو في البلدان التقليدية، حيث تعتمد السلطة على الـ«consensus» (الإجماع المشترك)؛ أو في النظم الأوتوقراطية بإقناع الحاكم «الرأي العام» بمشروع شعبوي. في النماذج الثلاثة، لا يوجد فعلياً تعريف دقيق للمقصود بالرأي العام؟ وما هي أدوات قياسه؟
أهي الانتخابات والاستفتاءات؟
الفارق في التصويت عادة ما بين واحد إلى خمسة في المائة، وحتى عندما يكتسح حزب الانتخابات ليشكل الحكومة، فإن أقصى اكتساح، خبرته في أكثر من نصف قرن في الصحافة، لا يزيد على سبعين في المائة... (نماذج الـ99.9 في المائة أصبح مكانها اسكتشات المنولوغيستات الفكاهية). ولذا السؤال... ما هو الرأي العام وكيف يمكن قياسه؟
هناك نوع آخر من الانتخابات، ربما أنحاز إليه بحكم المهنة: التصويت يومياً من القراء الذين يدفعون من جيوبهم لشراء الصحيفة، وهذه بدورها من اليمين إلى اليسار والاتجاهات المتعددة، تعني أن هناك العشرات من الاتجاهات، ولا يمكن أن تكون «الرأي العام» ككل.
الأقرب في المجتمعات الديمقراطية المفتوحة هي استطلاعات الرأي، لأنها تستخدم وسائل وأساليب البحث التجارية في التسويق، خصوصاً أن هذه المجتمعات الليبرالية هي أراضي السوق الحرة المفتوحة، التي تجري فيها هذه الاستطلاعات باستمرار.
اليوم مثلاً في بريطانيا، والمجتمعات الليبرالية عامة، هناك ما يعرف بالحرب الثقافية، ليس بعنف الثورة الثقافية في الصين (1966 - 1976) لكنها تتخذ طابعاً يلجأ إلى عنف من نوع آخر يهدد الإجماع المشترك والتوازن والتسامح والإرث الثقافي الذي يعيش ضمن استقرار الديمقراطيات أجيالاً طويلة.
العنف يتخذ طابعاً غير مباشر مثل ما عرفناه في مقابلات سابقة بـ«اللامنبرة»، التي تتمثل في منع محاضر، أو كاتب، أو مفكر من منصات التعبير كإلقاء محاضرة في إحدى الجامعات، أو في قاعة عامة، أو منعهم من الظهور والمشاركة في برامج الإذاعة والتلفزيون؛ وقد يتخذ طابع التهديد وإرهاب الخصوم مثل نشر محال إقامتهم أو عملهم الخاص على منصات التواصل الاجتماعي مما يعرضهم لتهديد الغوغاء.
وهناك أيضاً العنف المباشر الذي يتمثل في تحطيم التماثيل، وتشويه النصب التذكارية وإتلاف المعروضات في المتاحف؛ وعنف أقل منه، يمتثل في إزالة التماثيل والرموز التاريخية والوطنية.
هذا العنف في الحرب الثقافية والاستقطاب والمسيطر اليوم على المشهد في بلدان كبريطانيا، تقوده أقلية عالية الصوت بالغة الضوضاء ضد من يسميهم الجيل الأكبر بـ«العقلاء»، بينما تصر جماعات اليسار على أنهم يمثلون الرأي العام؟
كيف يمكن قياس التعريف الخلافي هذا؟
في استطلاع للرأي أجراه المعهد السياسي للكلية الملكية في لندن (كينغز كوليدج) حول الحرب الثقافية وحرية التعبير، اتضح زيادة 10 في المائة (من 26 في المائة العام الماضي إلى 35 في المائة هذا العام) في الشعور بضرورة «تجنب التعبيرات والكلمات التي قد تجدها جماعات أخرى مسيئة»، لكنها نسبة مساوية لمن يعتقدون أن الناس يبالغون في حساسيتهم لما يعدونه مهيناً لهم، بينما30 في المائة فقط يتخذون موقفاً مناهضاً للمجموعتين.
الملاحظ أن المبالغين أكثرهم من اليسار (51 في المائة من أنصار حزب العمال بينما النسبة 18 في المائة بين المحافظين). وينعكس الأمر بالنسبة للتسامح وقبول النكتة وقبول حرية التعبير، حتى ولو كان الأمر مخالفاً لمعتقدات المستمع أو المتفرج أو القارئ، إذ تبلغ 54 في المائة بين المحافظين، وتنخفض إلى 18 في المائة فقط بين العمال.
أيضاً تتراوح نسبة التشدد مع الرأي الآخر والتسامح، حسب الأعمار والأجيال، فكبار السن أكثر تسامحاً وقبولاً للرأي المخالف (40 في المائة لمن هم فوق الخامسة والخمسين) من الشباب بين السادسة عشرة والرابعة والعشرين (27 في المائة).
واتضح من الدراسة نفسها أن نسبة التسامح وقبول الرأي المخالف وعدم الشعور بالإهانة بين الرجال (44 في المائة) تكاد تبلغ ضعفها بين النساء (25 في المائة)، فهن أكثر حساسية ويشعرن بالإهانة (40 في المائة) من الرجال الذين يشعر 28 في المائة منهم فقط بالإهانة، إذا رأوا حرية التعيير جارحة لمشاعرهم أو تقلل من شأن معتقداتهم...
اشتملت الإحصائية أيضاً على مقارنة بين المصوتين على استفتاء «بريكسيت». فمقابل كل اثنين من البقائيين في الاتحاد الأوروبي يعترضان على حرية التعبير إذا كانت مهينة، تجد تسعة من الخروجيين من الاتحاد يفضلون حرية التعبير على الرقابة بسبب جرح المشاعر. ومقابل كل عشرة من العرقيات غير البيضاء التي ترى تعارضاً بين حرية التعبير ومعتقداتهم ومشاعرهم، فهناك ثمانية وثلاثون يعطون حرية التعبير أولوية على مراعاة المشاعر. وبالمناسبة، لم يستطع أحدٌ أن يجد تعريفاً محدداً بالمقصود بـ«جرح المشاعر». وإجابة على السؤال نفسه ستجد أعلى نسبة (45 في المائة) من الذين يضعون حرية التعبير قبل أي اعتبار آخر كمراعاة حساسية الآخرين، هم الأكبر سناً فوق الخامسة والخمسين، بينما الشباب في العشرينيات نسبتهم حوالي الربع.
الإحصائية تشير إلى تساوي نسبة الذين يرون أن حرية التعبير اليوم في المجتمع البريطاني (كنموذج للمجتمع الأوروبي الديمقراطي الليبرالي المفتوح) تحت التهديد الذي يمكن أن يدمرها، وتتساوى مع النسبة التي ترى تهديداً لحساسية الأقليات ومشاعرهم، وهي الثلث، مما يعني أن الثلث الباقي غير مهتم أو لا يرى تهديداً لأي من الأمرين. المفاجأة أنه بالنسبة لقضايا كـ«بريكسيت»، والتغير المناخي، وحرية التعبير، تجد أن اليمين أكثر تقدميةً وتمسكاً بحرية التعبير، وضرورة مناقشة هذه القضايا علناً وبحريةٍ، من اليسار (بضعفي النسبة)؛ رغم الاعتقاد التقليدي بأن اليسار الليبرالي يفترض أن يكون تقدمياً مع حرية التعبير وحرية الثقافة والابتكار.
وتستخلص الدراسة أن الصراع الثقافي يدور بين خمس مجموعات: المناضلون من أجل حرية التعبير (يمثلون 12 في المائة)، القلقون على مستقبل حرية التعبير (28 في المائة)، الرافضون لتدخل الدولة لحماية مشاعر الأقليات (22 في المائة)، والمؤيدون لتدخل الدولة لحماية مشاعر الأقليات (20 في المائة)، والناشطون في حملة التدخل لحماية مشاعر الأقليات (18 في المائة).
المقلق أنه بالمقارنة مع أرقام الإحصائيات السابقة، تجد تراجعاً مطرداً في نسبة المؤيدين لقيم أساسية كحرية التعبير وحماية حرية الفرد.