بقلم: عادل درويش
هل حكومة المحافظين في مأمن من الناخب البريطاني؟ لماذا يطرح السؤال خارج بريطانيا أكثر من داخلها.الصورة التي تظهر بها تحديات، سواء «فضائح» أو أزمات اقتصادية أو سياسية، تواجه حكومة بوريس جونسون، تتوقف على مصدر «الإلهام»، أي الوسيلة الصحافية التي يرجع إليها المراسل عند إعداد تقريره للمتفرج أو القارئ الأجنبي - ونقصد بالأجنبي الجمهور غير البريطاني في التعبير اللغوي المبسط.
تابعت أكثر من مراسل (خاصة من شبكات البث باللغة العربية) يخبر مشاهديه عن «خسارة حكومة جونسون للانتخابات قبل أيام (أو عن) الهزيمة الموجعة التي مني بها جونسون وحكومته المحافظة في الانتخابات المحلية».
تعبيرات تقارير المراسلين، للجمهور غير البريطاني، تتراوح ما بين «مضللة» و«ضبابية»، لا تعطي صورة واقعية عن ترتيب المشهد السياسي الداخلي، خاصة أن معظم مراسلي هذه الشبكات لا يشرحون الفرق بين الانتخابات المحلية والانتخابات القومية العامة.
فقد تلقيت عدداً من الاستفسارات من خارج المملكة المتحدة (خاصة مصر وبلدان الشرق الأوسط) يطلبون شرحاً للأمر؛ فمعظم مراسلي الشبكات التي تبث بالعربية هنا، يركزون طاقتهم الأكبر على شؤون أكثر أهمية في بلدانهم الأصلية، ونادراً ما يتعمقون طويلاً في السياسة البريطانية، لأن اهتمامهم، كمتفرجيهم وقرائهم بالقضايا البريطانية نفسها موسمي عند حدوثها وليس مستديماً كحال المواطن البريطاني الذي تؤثر هذه السياسات والانتخابات المحلية على حياته اليومية من خدمات واقتصاديات المعيشة.
الاهتمام الموسمي للمراسلين غير البريطانيين يضطرهم للجوء للصحافة البريطانية كمصدر، والأكثر انتشاراً بينهم الـ«غارديان»، والـ«تايمز»، وبالطبع الـ«بي بي سي» و«سكاي»، وتليها الـ«ديلي تلغراف»، والأقلية منهم تتابع صحافة اليمين (كالديلي ميل والديلي إكسبريس)، أما الصحافة الشعبية الأوسع انتشاراً والأدق تعبيراً عن أحوال المواطن العادي «كالصن والديلي ستار والديلي» فتقابل بازدراء مراسلي شبكات الشرق الأوسط؛ بينما يكاد ينعدم اطلاعهم على الصحف المحلية (43 صحيفة في لندن وحدها وما يزيد على ألف في الأقاليم). باختصار مصادر هؤلاء المراسلين، أو بتعبير أدق، تفسيرهم وتحلييهم لنتائج الانتخابات المحلية «سكند - هاند» من الاطلاع على تشريح المعلقين البريطانيين للنتائج ومعظمها من الصحافة والشبكات اليسارية البريطانية. الأخيرة تضخم من تأثير العدد الكبير من المقاعد في المجالس البلدية التي فقدها المحافظون، رغم أن أحزاباً أخرى كانت خسارتها مؤثرة. فالعمال (المعارضة الرئيسية) والقوميون الأسكوتلنديون (الحزب الحاكم في أسكوتلندا) أيضاً فقدوا مقاعد في البلديات، للديمقراطيين الأحرار، وللخضر وأحزاب صغيرة وللمستقلين، كما أن الحزب الوحدوي الديمقراطي فقد، لأول مرة، أغلبيته في آيرلندا الشمالية للحزب الجمهوري القومي شين فين (وأغلبه كاثوليك)، وهو الواجهة السياسية لمنظمة إل آي آر إيه (الجيش الجمهوري الآيرلندي) التي مارست الإرهاب لعقود طويلة، ودخلت في هدنة مستمرة باتفاق الجمعة العظيمة قبل عقدين. التطور الأخير هو الأكبر تأثيراً، لأنها كان انتخابات في برلمان آيرلندا الشمالية، أي انتخابات لتشكيل الحكومة المشتركة في العاصمة بلفاست، والتأخير بدوره يشكل عقبة في تنفيذ اتفاقيات التجارة البريطانية الأوروبية بعد «بريكسيت»، ووصل الأمر لأزمة مواجهة بين لندن وبروكسل وتبادل اتهامات (عنيفة اللهجة من الجانب الأوروبي مقارنة باللغة المهذبة الإنجليزية باردة الطابع) والتهديد بحرب تجارية بين الجانبين ومقاطعة منتجات. فالحدود بين الآيرلنديتين هي حدود بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، فآيرلندا الجنوبية عضو في الاتحاد الأوروبي، لكن اتفاق الجمعة العظيمة الذي أنهى حرباً أهليه استمرت ثلاثة عقود على أرض بريطانية، تشترط إبقاء الحدود مفتوحة بين الآيرلنديتين وعدم وضع نقاط تفتيش عليها. تلتقي مصالح بروكسل (التي تريد معاقبة الشعب البريطاني على تصويت «بريكسيت» وجعله عبرة لمن يجرؤ من شعوب أوروبا على التصويت بالخروج عن الاتحاد)، مع مصالح الحركة الجمهورية الآيرلندية في الشمال والجنوب ورغبتهم في توحيد الجزيرة (تحت حكم الجمهوريين الكاثوليكيين)، أي يحصلون عبر نفوذ وقوة بروكسل على ما لم يستطيعوا الحصول عليه بالإرهاب والعنف طوال عقود من نزف الدماء سواء في آيرلندا الشمالية أو في مدن إنجلترا، خاصة لندن من تفجيرات إرهابية.
التأثير من نتائج انتخابات الأسبوع الماضي على مستقبل حكومة المحافظين قومياً لا يقارن بالنسبة للآثار غير المباشرة للانتخابات في آيرلندا الشمالية. فما ترتب عليها - بشكل غير مباشر - أكبر وأخطر على مستقبل اقتصاد بريطانيا من الانتخابات المحلية في بقية أمم المملكة المتحدة الثلاث (أسكوتلندا، وإمارة ويلز، وإنجلترا)، لكن هذا بدوره لا أثر له على حظ حكومة جونسون المحافظة. فسواء كان رئيس الوزراء في داوننغ ستريت يظهر «بكرافتة» المحافظين الزرقاء، أو العمال الحمراء، فإن المشكلة التي فجرها تغير ميزان القوى في بلفاست ستظل كما هي مع الاتحاد الأوروبي، بل إن قواعد وناخبي القاعدة الشعبية لحزب العمال يشكلون غالبية الناخبين الذين صوتوا لـ«بريكسيت» في استفتاء 2016 رغم أن الزعامة (اللندنية التمركز) للعمال أكثر ميلاً وتعاطفاً مع بروكسل من الطبقة العاملة البريطانية. هذا الانفصام بين زعامة حزب العمال وناخبيه انعكس أيضاً في الانتخابات المحلية الأسبوع الماضي، فالمناطق التي كانت تقليدياً مع العمال وانتقلت بأصواتها للمحافظين فرجحت كفتهم في الانتخابات العامة في 2019. صوتت الأسبوع الماضي لمجالس بلدية أغلبها «محافظون»، وهو ما قلل أثر خسائر حزب جونسون في البلديات الأخرى.
الحكومات البريطانية تقليديا تتعرض لتصويت «احتجاجي» خارج الانتخابات العامة، سواء في الانتخابات المحلية أو الفرعية، والمحافظون في الحكم لاثنتي عشرة سنة، وكان المتوقع أن تكون نتائج الانتخابات المحلية أسوأ مما حدث.
لكن التطور الذي يجب أن يقلق المحافظين هو «معاقبة» الناخب التقليدي في الدوائر الموالية في جنوب إنجلترا، الذي يرى في سياسات حكومة جونسون ووزير ماليته ريشي سوناك، اتجاهات اشتراكية وهوساً شبه هيستيري بالسياسات البيئية، إضراراً بمصالحهم الاقتصادية والمحلية. ناخبو هذه المناطق صوت ثلثهم للديمقراطيين الأحرار أو لمستقلين امتنعوا عن التصويت، ولم يصوتوا للعمال. أمام المحافظين عام واحد لموازنة سياسة مشاريعهم الموجهة لدعم مناطق الطبقات العاملة في الشمال الصناعي التي اقتنصوها من العمال، مع سياسات تستهدف الاحتفاظ بأصوات الدوائر المحافظة التقليدية في جنوب إنجلترا. سياسة توازن تتطلب مهارة لاعب سيرك يسير على حبل مشدود حتى الانتخابات العامة المقبلة في 2024.