بقلم: عادل درويش
في برنامج «الندوة» تقديم الزميل مشاري الذايدي، بث أمس (السبت) (قناة العربية)، شاركته والدرماتيست المخرج والكاتب المسرحي رجا العتيبي، حول دور الدراما كتوضيح أو تزييف للتاريخ (راجع: الدراما وتزييف التاريخ، «الشرق الأوسط» 13 نوفمبر/ تشرين الثاني؛ ومسلسل «ذا كراون»... هل هو تاريخ أم خيال؟ عدد 16 نوفمبر).
العتيبي تساءل عن الخطأ الشائع في تسميات وتقسيمات (غير معروف من المسؤول عنها) كمسلسلات درامية، وكوميديا، وأفلام روائية، وأفلام بوليسية، وأفلام استعراضية وغيرها، كلها في الواقع تدرج تحت تصنيف «الدراما».
تصنيف محدد وأفضل ويريحنا، فالكوميديا بأنواعها، كالفارس، وكوميديا المواقف، وكوميديا الشخصية (كوميديا السلوك) أو أعمال الاستعراض، أو التراجيديات (المأساة)، أو الجريمة أو تمثيليات التلفزيون، كلها دراما، بنظرية الدراما لأرسطو (384 - 322.ق.م.)، وتطوراتها الحديثة، «حبكة لها بداية ووسط ونهاية». البداية لا يشترط لها تسلسل زمني مسبق لوقوعها، لكن المهم أن تؤدي إلى نهاية لا بد أن تكون بالضرورة خاتمة (أي لا شيء أو حدث يأتي بعدها) لكنها تنتهي كنتيجة أحداث وتطورات (في فصول الوسط مثلاً) كعواقب لهذه البداية وما أتت به من تفاعلات وشخصيات تتعامل مع الأحداث، وليست اعتباطاً أو مصادفةً.
أرسطو ركز على التبسيط، فالعناصر الأخرى دورها دعم لهذه التركيبة لا تعقيدها؛ عناصر كالكورس (الجوقة) والراوي والغناء، وهذا ينطبق على الإضافات المساعدة من تكنولوجيا أتت بها القرون الحديثة. وكان أرسطو في «poetics» ( 335 ق.م.) («الأعمال الشاعرية» كترجمة مجازية) لم يحدد شروط نظرية بناء هندسية يلتزم بها المسرحي في صياغته، وإنما كان تحليلاً لأعمال مسرحية بعضها سبقه بقرون كتراجيديات ديونيسوس (500 ق.م.) والمسرحية الساتيرية (490 ق. م.) التي تشمل التراجيديا والكوميديا معاً. فتاريخياً، الفنان (خالق العمل) يسبق الفن، والأخير يسبق المتفرج، والثلاثة يسبقون، كوجود، الناقد أو الأكاديمي صاحب النظرية (كأرسطو).
أهمية المقدمة التاريخية هو ما بعد أرسطو في «الجديد»، وفق نظرية الدراما، لما ليس دراما (كرواية مبتدعة).
لا نقصد فقط المسلسلات التلفزيونية (لا نهاية للحلقة بالتعريف الأرسطي)، بل لكل ما لم يكن موجوداً من أعمال درامية.
الدراما بأنواعها أعلاه، تختلف عن العمل التسجيلي (لا أميل لكلمة «الوثائقي» لضيق المعني لما يمكن أن تشمله)، والأخير، من المعني، عرضاً على المسرح أو الشاشتين (الفضية أو الصغيرة) «لتسجيل» أحداث يجب أن تتوخى الدقة، ككتاب يذكر المصادر وأقوال الشهود.
ملاحظاتي، والزميل الذايدي، على مسلسل «التاج» (ذا كراون)، هو تزييفه مواقف لم تحدث، والافتراء بأقوال لشخصيات لا تزال حية من ساسة كذبوا ما جاء في المسلسل. منتجو المسلسل، بدورهم، تحججوا بأنه «عمل درامي» (رغم صعوبة إخضاع المسلسل للتعريف الأرسطي الكلاسيكي)، وكانوا حذرين فتجنبوا كلمة «خيالي»، فالشخصيات ليست خيالية كالمحققين «شرلوك هولموز» أو «أوركيل بوارو»؛ لأنهم اختاروا شخصيات واقعية عاصرناها وعرفناها كمحمد الفايد، وابنه المرحوم عماد (1955 - 1979) والأميرة الراحلة ديانا (1961 - 1997) ودور فعال لحكومات (1997 - 2007) توني بلير، و(1990 - 1997) وجون ميجور.
الدراما التسجيلية (documentary drama)، سلاح بحدين: تقريب للأذهان والتعليم في مناطق وعصور انتشار الأمية. مسرحيات وليم شكسبير (1564 - 1616) التاريخية كريتشارد الثالث، وهنري الخامس، دراما كلاسيكية لكنها تحكي أحداثاً واقعية (وكانت نسبة الأمية مرتفعة، واللاتينية لغة التوثيق الرسمية والكنيسة بينما مسرحياته بالإنجليزية لغة الحديث). أو في العصر الحديث - أعمال يوسف شاهين (1926 - 2008) كثلاثية أفلام الإسكندرية (1978 - 1989) كشاهد لأحداث نصف قرن ابتداء من الحرب العالمية الثانية. أيضاً «وولف هول» (Wolf Hall) (بلاط الذئب) للأديبة الروائية التاريخية الإنجليزية هيلاري مانتيل (1952 - 2022) عن أحد أهم شخصيات التاريخ الإنجليزي في العصر الإليزابيثي الأول، توماس كرومويل (1485 - 1540) وزير بلاط (1534 - 1540) هنري الثامن (1491 - 1547)؛ أجزاء الرواية في الكتب والعمل الدرامي مشوقان لتلاميذ المدارس، خصوصاً الجيل الذي يفضل المشاهدة والدراما الروائية على قراءة الكتب؛ كلها تعد دراما بالتعريف الأرسطي.
بالنسبة لأجيال المعرفة البصرية فقط، قد تكون الدراما التسجيلية من أسوأ المساهمين في تشويه التاريخ، خصوصاً في عصر الرقابة (وأسوأها الذاتية) أو الضغوط السياسية والمادية والانتقائية الآيدولوجية لتزييف أحداث التاريخ.
وهذا بالطبع غير دراما أفلام وتمثيليات الواقعية الاجتماعية كرواية من خيال الكاتب، بتركيبة توافق نظرية الدراما الأرسطية، لكنها تعكس واقع حياة الناس؛ كفيلم «باب الحديد»، إخراج وبطولة شاهين، وسيناريو عبد الحي أديب (1928 - 2007)، بعرضه شخصيات خيالية، كبائعة المشروبات، وبائع الصحف، وزعيمة الحركة النسائية، من واقع المجتمع. فمحطة القاهرة نفسها بلد مصغر تتصارع مصالح طبقاته أو تتعاون، بشكل يتعارف معه المتفرج واقعياً. ورغم أنها دراما بكل مقاييس أبعاد النظرية الأرسطية، فالمتفرج يراها واقعية كمرآة لحياته اليومية. المفارقة أن أفلام الواقعية الاجتماعية ليست دراما تسجيلية، كحال مسلسل «ذا كراون» مثلاً، والخطورة كما ذكرنا سابقاً، أنها، شئنا أم أبينا، تصبح «سجلاً» يبقى في الأرشيف لعقود، وربما تصير مصدراً لأجيال المستقبل. مثلاً كتاب الأكاديمية الأميركية ديبورا ستار «ذكريات مصر الكوزموبوليتيكة: الأدب، والثقافة والإمبراطورية» (2009) دراسة ممتازة ومفصلة للمجتمع المصري في القرن العشرين، لكن أحد مصادرها كان مسلسل «زيزنيا» (1997 - 200)، لأسامة أنور عكاشة (1941 - 2010) كدراما تسجيلية لأربعينات القرن الماضي في الإسكندرية.
المسلسل نفسه، مثل «ذا كراون»، مليء بالمغالطات التاريخية وتزييف أسماء الأماكن والمنظمات السياسية والتعريفات التي لم تكن مستعملة، وافتعل أحداثاً وهمية، بسحب صانعي العمل آيدولوجيتهم السياسية الضيقة من ستينات وسبعينات القرن العشرين عليها بأثر رجعي. كتاب الدكتورة ستار، كباحثة لها وزنها الأكاديمي، يعود إليه الكثيرون ويتتبعون المراجع الأصلية كأي مؤرخ لدراسة أحداث وقعت في مصر في فترات قبل أن يولد معظمهم. فأين سيكون «الواقع» وأين «الخيال» كمصدر موثوق لمؤرخي المستقبل؟