بقلم - نجيب صعب
الشحنة الأولى للهيدروجين المسيَّل من أستراليا إلى اليابان كانت إيذاناً بمرحلة جديدة في تكنولوجيا الطاقة. صحيح أنّ إنتاج الهيدروجين من الماء بواسطة التحليل الكهربائي ليس بالاكتشاف الجديد، كما أنّ خصائص الهيدروجين كناقل فعّال للطاقة معروفة منذ زمن طويل. لكن الجديد هو إنتاج الهيدروجين على مستوى تجاري للتصدير كسائل مضغوط مجلَّد على حرارة 253 درجة تحت الصفر، أي أكثر بنحو خمسين في المائة عن الحرارة المطلوبة لتسييل الغاز الطبيعي تحضيراً لنقله وتخزينه. ومعروف أنّ الحجم في الحالة السائلة المجلَّدة يقل مئات المرات عن الحالة الغازيّة.
عدا عن النجاح في التسييل والتجليد، تم بناء ناقلة عملاقة تستطيع تحميل الهيدروجين المتجمّد مع احتفاظه بدرجة الحرارة شديدة الانخفاض، حتى وصوله إلى محطة التغويز في اليابان، حيث يُعاد تحويله مجدداً إلى الحالة الغازية لاستخدامه في توليد الكهرباء. ومعروف أنّه، تبعاً لطبيعة الأرض والمسافة بين مواقع الإنتاج والاستهلاك، يمكن أيضاً نقل الهيدروجين في حالته الغازية عبر شبكات من الأنابيب، تماماً مثل الغاز الطبيعي.
هذا هو الوجه المشرق للصورة، الذي يسجِّل افتتاح عهد الهيدروجين على مستوى التبادل التجاري العالمي. لكن للقضية وجهاً أقل إشراقاً، يتمثل في المضاعفات البيئية من إنتاج الكهرباء المطلوبة لفصل الهيدروجين عن الماء. فأستراليا تستخدم أكثر أنواع الفحم الحجري تلويثاً لتوليد الكهرباء، مع ما ينتج عنه من انبعاثات لغازات الاحتباس الحراري. وكانت أستراليا، في قمة غلاسكو المناخية، عارضت فرض فترة زمنية قصيرة لوقف استخدام الفحم الحجري، الذي تمتلك كميات كبيرة منه. في المقابل، التزمت الحكومة والشركات متعددة الجنسية المشاركة في المشروع بتطوير تقنيات فعّالة لالتقاط الكربون الناتج عن حرق الفحم وتخزينه بأساليب مأمونة. لكن الهيئات العلمية المعارضة للمشروع تؤكّد أنّ هذا لم يتحقق حتى الآن. ولا تزال الانبعاثات من توليد الكهرباء بحرق الفحم الحجري في أستراليا مرتفعة جدّاً.
إذا كان الوضع معقّداً إلى هذا الحدّ، فلماذا تريد اليابان استيراد الهيدروجين من أستراليا؟ الجواب هو أن اليابان، كغيرها من الدول، التزمت بخفض انبعاثاتها الكربونية تدريجياً، وصولاً إلى الصفر في حدود منتصف القرن. ولما كان الموقع الجغرافي للبلاد لا يسمح بإنتاج كامل حاجتها إلى الكهرباء من الرياح والشمس، إلى جانب التحفّظات على المفاعلات النووية بعد كارثة «فوكوشيما»، فهذا يحتّم على اليابان البحث عن مصادر أُخرى. وفي حين اعتقدت أنها وجدت ضالّتها في استيراد الهيدروجين من أستراليا، فإنّ النتيجة قد تنحصر في نقل المشكلة من مكان إلى آخر. فلقاء انخفاض الانبعاثات الكربونية في اليابان نتيجةً لتوليد الكهرباء من الهيدروجين النظيف، سترتفع الانبعاثات أضعافاً في أستراليا بسبب حرق مزيد من الفحم الحجري الملوث.
قد يتساءل البعض لماذا لا تُنتج اليابان الهيدروجين بنفسها. هذا يحتاج إلى عنصرين؛ الماء والكهرباء. ولئن كان الماء متوافراً في أي مكان، خصوصاً أنّ مياه البحر تصلح أيضاً للتحليل الكهربائي، فإن توليد الكهرباء اللازمة لهذه العملية يبقى التحدّي الأساسي. والسؤال المنطقي الذي يتبع هو: ما الفائدة من استخدام الكهرباء لاستخراج الهيدروجين من الماء، واستخدامه لاحقاً لإنتاج الكهرباء؟ الجواب أنّ الهيدروجين ليس مصدراً للطاقة بل مخزّنٌ وناقلٌ لها. لكن يمكن إنتاجه باستغلال فائض الكهرباء المولّدة في أي وقت من مصادر نظيفة، كالشمس والرياح، واستخدامه في أي وقت عند الحاجة، سواء لتوليد الكهرباء في محطات كبيرة للتوزيع على الشبكات، أو لتشغيل محرّكات السيّارات بالخلايا الكهربائية. كما تنعقد الآمال على وصول مشاريع التقاط الكربون وإعادة تدويره أو تخزينه إلى نتائج عملية تتيح تعميمها بأساليب فعّالة ورخيصة، ما يفسح المجال لاستخدام النفط والغاز لإنتاج الطاقة المطلوبة للهيدروجين في محطات مركزية، بلا انبعاثات كربونية.
الدول العربية المنتجة للنفط والغاز التقطت الإشارة، وهي تتحضّر لعصر يلعب فيه الهيدروجين دوراً أساسياً في ميدان الطاقة. فالسعودية اتفقت مع رئيس كوريا الجنوبية، في زيارته الأخيرة إلى المملكة، على تنفيذ مشاريع مشتركة لإنتاج الهيدروجين من كهرباء مصدرها الألواح الشمسية. كما أعلنت الإمارات وقطر عن مشاريع مشابهة في إطار شراكات دولية. ودول هذه المنطقة مؤهلة لقيادة صناعة وتصدير الهيدروجين عالمياً، لأنها، إلى جانب ثرواتها النفطية، تمتلك مصادر غير محدودة من الشمس ومياه البحار. وهذا يؤهلها لتصبح المصدّر الأكبر للهيدروجين في العالم، إما في أنابيب تعبر الصحارى والمحيطات، وإما في ناقلات عملاقة على شكل سائل مضغوط، بعدما أثبتت تجربة أستراليا واليابان إمكان تطبيق هذا عملياً وعلى نطاق واسع. الفارق أنّ في استطاعة الدول العربية، بخلاف أستراليا، إنتاج هيدروجين نظيف فعلاً، لا يخفّض انبعاثات الكربون في بلد ليضاعفها في بلد آخر. ومن المميزات التفاضلية للهيدروجين أنه يمكن ضخّه في شبكات توزيع الغاز الطبيعي مع تعديلات قليلة، بلا حاجة إلى تبديلها بالكامل. وهذا يجعله خياراً مغرياً كبديل للتدفئة في كثير من مناطق العالم، مثل أوروبا، التي تواجه منذ فترة أزمة خانقة في إمدادات الغاز. وتنفّذ جامعة «دلفت» الهولندية، منذ فترة، تجربة ناجحة، بضخ الهيدروجين إلى بعض منازل المدينة التي تقع فيها من دون تغيير الشبكات القديمة.
قبل 21 عاماً، في بداية 2001، دعتني شركة ألمانية كبرى لتصنيع السيارات إلى مؤتمر في دبي، عرضت خلاله سيارات تعمل على الهيدروجين. وهي اقترحت شراكة مع السلطات المحلية بضمانات ألمانية من القطاعين العام والخاص لإقامة مصنع لإنتاج الهيدروجين من مياه البحر، يستخدم كهرباء من ألواح شمسية تغطي أجزاء من صحراء الإمارات. وقد أوحى هذا بموضوع لغلاف مجلة «البيئة والتنمية» في مارس (آذار) 2001 عنوانه: «لاقطات شمسية عملاقة تنتج الهيدروجين من مياه البحر في صحراء الخليج».
التجربة الأسترالية نجحت في إيجاد حلول تكنولوجية لتسييل الهيدروجين وتصديره، لكنها أدّت فعلياً إلى ما يوازي استيراد الكربون. المطلوب حلول متكاملة لا تكتفي بنقل المشكلة من مكان إلى مكان آخر، والمنطقة العربية مؤهلة للعب هذا الدور.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»