بقلم - جميل مطر
معظم إن لم يكن كل ما يرد فى السطور التالية منقول عن رواة لاعتبار هام وهو أننى كنت خلال الأيام الحاسمة فى هذه المحطة من حياتى غائبا عن الوعى أو مغيبا عنه. بدأنا اليوم الأول، وكان يوم جمعة، بآلام فى صدرى غير معهودة ولا محتملة. كنا، حسب ما يذكر الرواة، فى شتاء عام 1995 وأهل القاهرة على أبواب عطلة. أيقظت زوجتى عندما فاجأتنى آلام فى الصدر عجزت معها عن النطق. كان الوضع غير مألوف لها أو لى. مرت عليها لحظات فزع وهى تبحث فى دفتر هاتفنا عن رقم طبيب أو آخر. خفت عليها وقد اكتسى بالاصفرار لون وجهها وفى عينيها إشفاق مختلط بالرهبة وعلى شفتيها علامات رعشة. أظن أننى غبت عن الوعى فى اللحظة نفسها التى رن فيها هاتف المنزل. نقلوا عنها قولها إنها لم تصدق أن صلاتها أتت بالمنقذ وبهذه السرعة. كانت عادة الزميل الصحفى الكبير فهمى هويدى الاتصال صباح الجمعة والدنيا حسب تعبيره هادئة لنتبادل الرأى فى موضوعات السياسة والمجتمع.
• • •
قالت إنها استطاعت إبلاغه بأنها حسب تقديرها الطبى، وهو محدود على كل حال، تعتقد أن الأزمة قلبية وحادة ولا تحتمل الانتظار وإنها لا تعرف ماذا تفعل، فالصيدليات لم تفتح أبوابها والأطباء المسجلون فى دفترنا لا يجيبون. طلب منها منحه دقائق، عاد بعدها ليبلغها أن عربة إسعاف من مستشفى الدكتور مصطفى محمود ستكون أمام بيتنا خلال عشر دقائق، وأن مسعفين سوف يصعدون للشقة ليصطحبوا المريض إلى المستشفى الكائن عند مدخل حى إمبابة قريبا من الميدان الرئيس، وغير بعيد عن محل إقامتنا فى المهندسين.
• • •
وصلنا المستشفى لنجد فى انتظارنا، حسب رواية الابنة الكبرى، صاحب المستشفى. خلال ساعات امتلأ المستشفى بالزوار من العائلة والجيران والأصحاب. بدا لهم كما بدا لمن استدعاهم أن الأمر خطير. قطع أطباء القلب والعناية المركزة التابعين للمستشفى إجازتهم ليكتشفوا أن حقنة ذات ضرورة حيوية لحالة الأزمة غير موجودة فى المستشفى، فضلا عن أن الصيدليات الكبيرة فى الحى لم تفتح أبوابها. سمعت أن حالة الطوارئ امتدت بتأزم أشد حتى ساعة متأخرة من عصر اليوم. قيل إن هيكل كان موجودا فى انتظار طبيب قلب كبير يعرفه شخصيا وهو الذى دعا هيكل لمشاركته الطلب إلى عميد كلية الطب بقصر العينى إعارة المستشفى حقنة من خزائن الجامعة على أن ترد صباح اليوم التالى. يذكرون أن نجل هيكل الأكبر وكان طبيبا حديث التخرج هو الذى أتى بالحقنة وسلمها إلى الطبيب المشرف على أقسام العناية المركزة بينما بلغت حالة المريض حدا بالغ التدهور. سمعت من زائر كان هناك يصف الحال فى المستشفى بالمؤسفة، ففى ركن من الردهة اجتمع الواجمون وفى ركن آخر المستترون خلف دموعهم وفى غرفة للعائلة بالقرب من العناية المركزة زوجتى مع أطباء يداوون أعصابها ويحاصرون ضغط الدم المتوالى الارتفاع وآخرون من العائلة يلبون رغبتها استدعاء ابننا من الخارج، وعلى مقربة من باب الغرفة جلس هيكل مع مجموعة أخرى فى انتظار شىء أو آخر.
• • •
حل المساء وما تزال الأخبار القادمة من غرفة العناية المركزة تعزز ما خرج منها طول اليوم عن استقرار التأزم فى الوضع الصحى. كانت لحظة فارقة حين دخل موظف من مكتب الاستعلامات واتجه مباشرة إلى حيث جلست زوجتى وانحنى ليهمس فى أذنها ثم وقف كمن ينتظر ردا. يبدو أن الموظف لم يراع وضعها الصحى حين أبلغها شيئا أزعجها إلى حد دفع بالدماء إلى عروق رقبتها ووجهها وبالتأكيد ارتفع ضغط الدم إلى حدود غير مقبولة. تمالكت نفسها حتى قالت «خليهم يتفضلوا إذا وافق الدكتور».
• • •
ترددت ثم قررت أن تخرج بنفسها لتستقبل هذا الفوج من الزوار. أذكر أنها وصفت الموقف بكلمات تكاد تكون كالآتى «وجدت أمامى قسا متقدما فى العمر ومعه اثنان أوفر شبابا يرتديان أيضا الثياب الكنسية. قال بصوت هادئ مفعم بمشاعر التفهم للموقف وحزنها والازدحام فى الردهة، نحن هنا بتكليف من كنيسة (..) بمصر القديمة لنصلى مع المريض أملا فى أن يسترد صحته ويرجع إليك من حيث هو الآن وبإرادة الرب وإلى أفراد عائلته وأصدقائه ومحبيه». زائرة كانت هناك علقت لى بقولها إن التكليف بالزيارة ربما صدر بناء على معلومات أن النهاية ربما حلت وأن المريض ربما وصل إلى نهاية رحلته التى قررها الخالق وأحاطها برعايته.
خرج القس من العناية المركزة ليقول لزوجتى ما معناه «زوجك سيشفى وقريبا جدا سوف يدخل الرب إلى قلوبكم الطمأنينة». حاولت لسنوات أن أجعلها تتذكر اسم الشخص الذى طلب من كنيسته القيام بهذا الدور النبيل.
• • •
مضى على هذه المحطة الأليمة سنوات. وبالصدفة المحضة عرفت الاسم ونشأت علاقة صداقة طيبة وزمالة مثمرة للطرفين تخللها تبادل رسائل بصفة تكاد تكون منتظمة. كانت ترد بانتظام على رسائلى وتكتب عن رحلاتها عند بناتها. ثم توقفت. كتبت أتساءل ولم ترد. كتبت مرة أخرى ومرات حتى ليلة أمس عندما وصل على صفحة رسائلى نص بالمعنى التالى «أنا (س) ابنة مدام (ح)، للأسف مامى تعبت فجأة.. وراحت السما من أسبوعين. ادعيلها. ومتشوفش حاجة وحشة».
• • •
كعادتى لم أتأخر فى الرد وكان تقريبا كما يلى «يا إلهى!! راحت السيدة الصديقة الكريمة التى أفضالها لا تحصى علىَّ وعلى عائلتى. ربنا يصبركم ويرعاكم ويرعاها. هى الآن فى حمايته».