بقلم - جميل مطر
خلال أيام معدودة وفى أوقات متقاربة خرج من أمريكا إلى عواصم بعينها فى الشرق الأوسط وزير خارجيتها ومستشار أمنها القومى ووزير دفاعها ورؤساء أهم أجهزة استخباراتها، خرج أيضا ليتحدث إلى أشهر القنوات التلفزيونية الأمريكية والمعروفة بانتشارها العالمى مساعدون لهؤلاء المسئولين الكبار. أكثر المراقبين فهموا أن الإدارة الأمريكية قررت تحريك قمم الدبلوماسية الأمريكية لمواجهة تطورات خارجية باتت تهدد فى شكل من الأشكال مصالح أمريكية وتعيق أو تعطل تحقيق أهداف للسياسة الخارجية. المعنى الذى نذهب إليه هنا فى هذه السطور هو أن الدبلوماسية لم تعد اختصاصا لجهاز أوحد وأقصد جهاز وزارة الخارجية.
نذهب إلى معنى آخر وهو أن الجهة فى الحزب الديمقراطى الموكل إليها اختيار المرشح لمنصب رئاسة الجمهورية فى حال عودة بايدن عن قراره الترشح أو فى حال اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن صحة الرئيس لن تتحمل سنوات أربعة أخرى فى البيت الأبيض، هذه الجهة ربما وجدت أن بعض التطورات الأخيرة قد تكون متعمدة لانتهاز فرصة المرحلة الانتقالية فى ولاية الرئيس بايدن للحد من نفوذ أمريكا ومكانتها فى الخارج. أما هذه التطورات الأخيرة، سواء كانت متعمدة حسب الظن السائد فى بعض دوائر نخبة واشنطن السياسية أو بريئة من هذا الظن أو غيره، فتتصدرها العناوين التالية:
أولا: الأزمة الرهيبة فى إسرائيل باعتبار أنها مع امتدادها لأسبوع سابع والاتساع المطرد فى عدد ضباط وجنود سلاح الطيران المضربين عن حضور برامج التدريب صارت تهدد أمن الدولة العبرية. الأمر الذى يدرك الجميع أنه يحتل مكانة رئيسة فى قائمة المصالح الحيوية لأمريكا فى الشرق الأوسط وأن المساس به يستدعى التدخل الحاسم والسريع. يحدث هذا التطور الخطير بينما ترى أمريكا، ومعها العالم الغربى إصرار نتنياهو وحكومته على تعريض الديمقراطية كما تطبقها إسرائيل للخطر بانجراره وراء العناصر المتطرفة المطالبة بإدخال «إصلاحات» فى النظام القضائى تهدف إلى تقييد استقلالية المحكمة العليا، فضلا عن أنه المستفيد شخصيا فى النهاية إذا عرف كيف يتخلص من القضايا التى قد تمس الأحكام فيها مستقبله السياسى. هذا المستقبل يراه معادلا أو متجاوزا فى أهميته إنجازات بن جوريون وجيل الأوائل.
ثانيا: تصاعد حماسة ونضال الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلى فى الضفة الغربية والقدس، والتصعيد المستمر للعنف العسكرى الصهيونى من جانب الجيش والشرطة الإسرائيلية ومن جانب أعمال إجرامية قامت بها جماعات منظمة من المستوطنين مثل حرق الزراعات وبخاصة حقول الزيتون لما تمثله هى للفلسطينيين. أدت هذه الأعمال وتصعيد العنف المؤسسى إلى تذمر فى الشارع العربى خارج فلسطين مثيرا من جديد قضية جدوى الالتزام الرسمى والشعبى، إن وجد، بالمشروع الإبراهيمى الذى مهدت وخططت له وشاركت فى التنفيذ الولايات المتحدة ممثلة بأعلى قمم دبلوماسيتها. بمعنى آخر يكاد يكون مهددا بالسقوط أحد أهم وأحدث «إنجازات» أمريكا الدبلوماسية فى الشرق الأوسط.
ثالثا: ترددت إيحاءات تدفع عن الدبلوماسية الأمريكية شبهة عدم العلم مبكرا بمساعى الصين للتوسط بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية فى إيران لتحقيق تقارب بينهما ومساعدتهما على إعادة مستوى علاقاتهما الدبلوماسية إلى ما كان عليه قبل سنوات عديدة. أشهد بداية بكفاءة وقدرة الأطراف الثلاثة على التزام الكتمان على طول فترة الاتصالات والمباحثات التى جرت بينها. واضح من الشكل الذى سارت عليه المفاوضات أن الأجهزة الاستخباراتية فى طرفين على الأقل نجحت فى فرض أستار الكتمان وهو الأمر الذى تحرص عليه الدول الثلاث على كل حال وفى مختلف الظروف انسجاما وتمشيا مع نظم العمل السياسى فيها، ولدبلوماسيات هذه الدول، كما نعرف، تاريخ مشهود فى التخطيط «الساكت». يحسب لها جميعا تحقيق هذا الإنجاز فى ظل ظروف دولية وإقليمية غير عادية. لا يفوتنا أن ممثلى الدول الثلاثة فى هذه المفاوضات يخضعون بدون شك وبحكم وظائفهم لرقابة استثنائية من جانب الدبلوماسيات الغربية وباستخدام إمكانات تكنولوجية بالغة التقدم.
نعلم عن ما تقوم به أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من أجل أن تحاط علما يوما بيوم بأنشطة الأجهزة المماثلة لها فى إيران وبالتأكيد وبخاصة بمن كلفته القيادة الإيرانية بمتابعة موضوع الوساطة الصينية.
نعلم أيضا أنه فى هذه المرحلة المتقدمة من سباق أو صراع المنافسة الاستراتيجية بين أمريكا والصين ما كان ممكنا عقد لقاءات سرية على هذا المستوى تشارك فيها الصين ولا تعلم بها الدبلوماسية الأمريكية.
نعلم من ناحية ثالثة أن الأجهزة الأمنية الأمريكية ضاعفت اهتمامها بتطورات العمل السياسى والدبلوماسى السعودى منذ أن صارت دبلوماسية المملكة تعمل فى صمت وتشارك فى صنع سياسات وقرارات بعضه بحجم القوة التى أصبحت تحوز عليها والنفوذ الذى صارت تتمتع به وتمارس بعضا منه.
بكلمات أخرى أميل إلى الرأى القائل بأن جهات فى الغرب وقيادات سياسية محدودة العدد كانت على علم بما تقوم به الدبلوماسيات الثلاثة وأن الرأى انتهى إلى فائدة ترجى من عدم إجهاضها بل وربما منحها الفرصة كاملة لتصل إلى نهايتها. لا يعنى هذا أن أمريكا لن تضغط بكثير من أدواتها الدبلوماسية لإحباط هذا التقارب الثلاثى إن وجدت هذا التدخل من جانبها ضروريا.
رابعا: الأزمة فى العراق كما فى سوريا مستمرة ومعقدة إلى حد يستدعى حسب رأى واشنطون استمرار وجود القوات الأمريكية فى البلدين. الوجود الأمريكى هناك صارت له علاقة بتطور المفاوضات السعودية الإيرانية وله علاقة أهم بتطور سباق النفوذ والقوة فى منطقة الشرق الأوسط. بدأ السباق فاترا ويتطور فى اتجاه توازن قوة جديد فى النظام العربى يعقبه وضع منظومة قواعد عمل لنظام شرق أوسطى يقنن الاختراقات المستمرة من جانب دول الجوار لحدود النظام الإقليمى العربى. على كل حال عادت أمريكا إلى سياسة التوسع فى نشر قواعد عسكرية لها فى الخارج وتعزيز القائم منها. تدخلت دبلوماسيتها فى الفيليبين حتى استعادت واحدة من أكبر قواعدها وأهمها فى جنوب شرق آسيا، وتتدخل حاليا فى أفريقيا تفاديا لأن يفوتها السباق الجديد على ثروات القارة السمراء وقد بدأ بالفعل حامى الوطيس.
• • •
بالنسبة لنا يتعين أن تكون المرحلة القادمة مرحلة العمل الدبلوماسى بامتياز ليس فقط لإعادة رسم حدود النظام العربى ووضع قواعد عمل جديدة له ولكن أيضا لابتكار علاقة من نوع خاص تربطه بدول جوار تأهبت بالفعل لمرحلة مختلفة. لا يغيب عن الذهن ولو للحظة المهام الصعبة، ولا أقول المستحيلة، التى تنتظر الدبلوماسية المصرية خلال هذه المرحلة المختلفة تماما عن كل المراحل السابقة من عمرها المديد.