حكاية عشق

حكاية عشق

حكاية عشق

 العرب اليوم -

حكاية عشق

بقلم : جميل مطر

نتدرب خلال شهور الربيع وأوائل الصيف استعدادًا للمشاركة فى احتفالات مناسبة كانت ترقى فى أذهان بعض الأهل وأطقم التدريس والتلاميذ إلى مرتبة التقديس. المناسبة ليست كالمناسبات المعتادة مثل عيد جلوس جلالة الملك وعيد ميلاده وطلوع المحمل. ملابسنا لهذه المناسبة تختلف فهى بألوان تميل إلى الصفار والحمرة، بينما كانت فى المناسبات الأخرى بيضاء ناصعة. كذلك اختلفت الرقصات التعبيرية التى كنا نتدرب لتأديتها فى تلك المناسبة. الألحان تميل إلى ألحان الصلوات فى معابد عهود الفراعنة كما تخيلها مؤلفوها وعازفوها الذين ارتدوا لهذه المناسبة أزياء مصرية قديمة وانتحلوا صنادل جلدية. الألحان والرقصات والملابس والأطفال والرايات على الأرصفة ومن الشبابيك والشرفات كلها توحى بأجواء الخشوع مختلطة بمظاهر الفرحة والرضا.
• • •
هناك عند النهر فى منطقة الاحتفال، لعلها غير بعيدة عما عرفناه عندما كبرنا بمنطقة الروضة، طافت على سطح مياه النهر عشرات المراكب من كل نوع، من الفلوكات الصغيرة إلى اليخوت الفاخرة وكلها مزدانة بأعلام مصر الخضراء ورايات المعابد الزرقاء ولافتات تحى النهر بلغاته التى يفهمها، وأقصد الهيروغرافية واليونانية واللاتينية والعربية. تتوسط هذا الأسطول المتنوع من عازفى الموسيقى والراقصات والبحارة مركب فاخرة بستائر وأشرعة ألوانها تناسقت وانسجمت وفوق أكبر أشرعتها تاج مينا موحد القطرين دليلًا مؤكدًا وجود جلالة الملك فاروق والملكة فريدة وجميع بناتهما داخله. ومن فوق كل القوارب وعلى الشاطئين وفى أحد أقرب الميادين إلى الشاطئ يصطف الأطفال وتلاميذ المدارس يؤدون رقصات أشبه ما تكون بالفرعونية بين تعالى الزغاريد فى كل أحياء القاهرة، إنه يوم العيد، عيد وفاء النيل.
• • •
أعترف أننى قبل كتابة هذه السطور حاولت الاطمئنان إلى أن ما ورد فيها ليس محض تأليف أو اعتمادًا فقط على ذاكرة لعلها بلت من كثرة الاستعمال والاستشهاد. لجأنا، أنا وزميلتى الآنسة وفاء، إلى مخازن حفظ الذاكرة وأغلبها أجنبى الجنسية واللغة. عثرنا على نسخة من جريدة مصر الناطقة بالإنجليزية تصف بدقة متناهية ومعتمدة على الصور والصوت أحداث هذا اليوم العظيم. استأنا بطبيعة الحال لعنصرية، أو ربما استشراقية، كاتب المشهد أو المذيع، وبخاصة عندما وصف بعبارات استنكارية أن الفراعنة كانوا يلقون فى النيل فى هذا اليوم ومن باخرة الفرعون بواحدة من أجمل عذارى المملكة المصرية وهى حية، يلقون معها أيضًا الكعك والفاكهة وأنواعًا شتى من الأضاحى والتمائم بعد تلاوة التراتيل وأداء الصلوات، وأن هذا التقليد ظل يمارس حتى وقت قريب.
ما أزال إلى يومنا هذا أذكر «عصافير الجنة» الفيلم الأمريكى الذى عرض بكل الذكاء الممكن والفخامة أسطورة عاشت فى جزيرة من جزر الباسيفيكى تحكى قصة حضارة عتيدة فى جزيرة يثور فيها بين الحين والآخر بركان عنيف وشرس يغرق ناحية أو أخرى من أنحاء الجزيرة باللهب واللافا المنصهرة. فما كان من كهنة الجزيرة وملوكها إلا إصدار الأمر بإلقاء إحدى أجمل عذارى الجزيرة فى قلب البركان عند بلوغه قمة غليانه. ولمزيد من إتقان الأسطورة وفرض الاقتناع بها قرر المستشرقون من مؤلفى الأسطورة أن يهدأ البركان بل يبرد بمجرد تلقيه الضحية فى قلب فورانه.
• • •
للمستشرقين بعض الحق فى توصيفهم الدقيق لحالة العشق التى كانت تربط المصرى العادى بالنيل. أقول كانت لأننى غير واثق تمامًا من أن المصرى ما يزال يعيش الحالة التى عاشها مع النهر منذ قرون عديدة خلت وكما عشتها أنا معه طفلًا كنت ثم مراهقًا ثم شابًا.
أذكر أننا كنا نستدعى من إجازاتنا الصيفية باعتبارنا أعضاء فى فرق الكشافة وجمعيات الرحلات لنؤدى من الألعاب واللوحات الرياضية والمسرحية أدوارًا طالما تدربنا عليها خلال شهور الربيع وأوائل الصيف. كنا، كما كان الفلاحون والمسئولون، نتطلع بشغف وشوق ومعهما كثير من الرهبة ونوع غير خاف من التقديس إلى حلول موعد الفيضان. أذكر أننى، وكنت شابًا غير صغير السن، أخرج إلى شاطئ النيل أو إلى كوبرى قصر النيل لأمشى مع رفاقى ومياه الفيضان الغاطسة فى الحمرة تغمر أقدامنا ونعود فرحين وقد اكتست بالطمى أحذيتنا.
• • •
لا أظن أننى رأيت النيل ساكنا. عرفته ينبض دائمًا بالحركة والحب والعطاء. انتقدوه إن زاد عطاؤه عن المطلوب والمرغوب، وعندما أحسنت الدولة ترويضه ندم الكثيرون وأنا منهم. الوحش الجميل فقد بعض فتوته ومعها أحد دواعى تقديسه. ومع ذلك استمر ساحرًا وجذابًا، استمر فاتنا.
عشت معه أوقات لا تنسى. عشت معه أحلى لحظات مسيرته. عشت أعتقد أنه لا شىء أجمل وأروع من نيل أسوان المتسرب بين الجنادل بكثير من الدلال والنعومة. أعرف أصدقاء من الجنسين، وكنا فى رحلة صعدنا إليه حتى منابعه، لم يصمدوا أمام سحره «الأسوانى» حتى ألقوا بأنفسهم فى أحضانه شوقًا وعرفانًا. توقفنا طويلًا أمام لحظة خلود، هى اللحظة التى التقى عندها النيل الأحمر بالنيل الأبيض، وتعمدنا فى نهاية الرحلة أن نقف طويلًا أمام لحظة خلود أخرى، لحظة التقى النيل العذب بالبحر المالح.
• • •
أذكر أحلى أيام عمرى معه. كم مشيت على شاطئه الغربى من «الكيت كات» حتى القناطر الخيرية لا أمل صحبته ولا يمل تطفلى. كم قضينا من ساعات أمسيات مع فلاح يزرع أرضا من طرح النيل، نزوره تجديفا بقوارب تتسع لاثنين لا أكثر. نتبادل حبات الطماطم وأكواب الشاى بأكلات جاهزة، نغسل الطماطم بمياه النيل ونسمع شعرا فى حب النهر وأحلام المستقبل. سافرت بعيدًا وطويلًا. عدت أبحث فى النيل عن جزيرتى والفلاح. خانت عهودنا فاشتراها من أقام عليها كازينو للسهر. حزنت وسافرت مرة أخرى وعدت لأسمع أن الكازينو اختفى لصالح فندق، وأن النهر اختطفته العمائر، وأن الناس غير الناس.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حكاية عشق حكاية عشق



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 03:09 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

بوريل يعترف بعجز الاتحاد الأوروبي عن بناء بنية أمنية جديدة
 العرب اليوم - بوريل يعترف بعجز الاتحاد الأوروبي عن بناء بنية أمنية جديدة

GMT 20:55 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

إلهام علي تكشف عن ملامح خطتها الفنية في 2025
 العرب اليوم - إلهام علي تكشف عن ملامح خطتها الفنية في 2025

GMT 14:56 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

أداة ذكية لفحص ضغط الدم والسكري دون تلامس

GMT 01:33 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

اعتقالات جديدة في أحداث أمستردام وتجدد أعمال الشغب

GMT 13:05 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

مهرجان آفاق مسرحية.. شمعة عاشرة

GMT 06:21 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

مفكرة القرية: الطبيب الأول

GMT 10:50 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

سبيس إكس تعيد إطلاق صاروخ Falcon 9 حاملا القمر الصناعى KoreaSat-6A

GMT 20:05 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

انضمام بافارد لمنتخب فرنسا بدلا من فوفانا

GMT 16:04 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ريال مدريد يكشف طبيعة إصابة فاسكيز ورودريجو في بيان رسمي

GMT 07:23 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

أزياء ومجوهرات توت عنخ آمون الأيقونية تلهم صناع الموضة

GMT 08:47 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

تامر حسني يتألق في حفل حاشد بالقرية العالمية في دبي

GMT 14:12 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ليفربول يفقد أرنولد أسبوعين ويلحق بموقعة ريال مدريد

GMT 22:55 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

ليوناردو دي كابريو يحتفل بعامه الـ50 بحضور النجوم
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab