بقلم - آمال موسى
لا شك في أن هاجس التنمية ليس أمراً جديداً على البلدان والمجتمعات بشكل عام. وحتى عندما نقصر النظر في العهد الحديث سنجد أن العلماء وضعوا نظريات مختلفة للتنمية. كما جرت الاستفادة من دروس التجارب التنموية من أجل تطوير النظريات ووضع غيرها؛ من ذلك أن البعد القطاعي في التنمية سرعان ما أثبتت التجربة قصوره وأن تقديم قطاع على قطاع ليس بالخيار الصحيح، إذ ساد الاعتقاد في منتصف القرن الماضي أن التنمية الاجتماعية هي الأكثر أولوية، وأن التنمية السياسية وممارسة الديمقراطية مسألة لاحقة بعد أن تقطع الدولة الخطوات الأساسية في مجال الإصلاح الاجتماعي. ولكن بعد تراكم التجارب ظهرت النظرية التنموية، التي تنادي بضرورة إرساء تنمية شاملة تأخذ بعين الاعتبار كل أبعاد عملية التنمية، أي اعتماد مقاربة متعددة القطاعات وبشكل متوازٍ.
إذن ما الجديد؟ الجديد حالياً هو ربط التنمية الشاملة بالأفكار أو بفكرة، ولكنها فكرة مكثفة ومركبة وغنية المعاني. فالخبراء باتوا يتحدثون اليوم عن التنمية الصامدة مع ما يعنيه ذلك من ربط قوي بين التنمية وفكرة الصمود. ولقد بدأ هذا الربط مع تأكد التغيرات المناخية في العالم وتأثيراتها التي لم يُحسب لها حساب. ويمكن القول إنه من اتفاق باريس واللقاء الأممي الكبير ومسألة تغيرات المناخ اتخذت وجهة أكثر جدية وإلزامية. ولقد بان بالكاشف كيف أن التغيرات المناخية تضر بالأرض والزراعة ومخزون المياه والصحة بشكل عام. ومن الواضح أن التوقف عند فكرة الصمود دون غيرها هو في حد ذاته نتاج تراكم ملاحظات وتفكير مطول، حيث إن المطلوب هو اعتماد تنمية قادرة على الصمود متى كان ذلك ضرورياً: نضرب مثلاً على ذلك تداعيات تأثيرات المناخ التي أدت إلى ارتفاع الحرارة وظهور الغازات الدفيئة التي تسببت في شح الماء والفيضانات والجفاف، أي الصمود أمام الكوارث الطبيعية الظاهرة منها وغير الظاهرة. وإذا كان الجفاف والفيضانات من الكوارث الظاهرة فإن نقص الماء لا يعلن عن نفسه بسهولة. واليوم يعرف العالم أزمة مياه حقيقية وهناك بلدان مصنفة تحت الفقر المائي وهو أمر يلقي بظلاله السلبية والموجعة على الزراعة وعلى الصحة. ومن سنوات والخبراء يعلنون أن الحرب المقبلة للبشرية ستكون بسبب المياه ومن أجلها. وهو إعلام لم يتم التعامل معه في البداية بجدية لأن الحروب كانت ولا تزال تقوم بسبب الموارد الأولية.
بل إن جائحة «كورونا» ذاتها التي تعصف بالعالم للسنة الثالثة على التوالي هي أيضاً كارثة طبيعية أودت بحياة الملايين من البشر، ورأينا كيف أثرت على الاقتصادات والاستثمار، ما يؤكد أن التنمية التي كانت تتأثر من عقود بنسب الأمية المرتفعة والتخلف الصحي وأيضاً بالحروب والتوترات، أصبحت اليوم في معركة مع الطبيعة، وهو أمر يستحق التأمل والتفكير والانتباه. لذلك لا بد من التحلي بالصمود ومن امتلاك مقوماته حتى تستطيع التنمية مواصلة العمل في الأزمات وفي عمق التأثيرات من دون أن تتعطل وتتأزم.
فالتنمية الصامدة هي التي تحمل أسلحة دفاعية متنوعة ومختلفة وتوظف السلاح المناسب للأزمة المناسبة. ومن غير الممكن اليوم وضع مخططات تنموية وبرمجة اعتمادات والمصادقة على المشاريع الكبرى من دون أن نربط كل المخطط بالتأثيرات المناخية ودون أن نحول وجهة بعض الخيارات القديمة إلى غيرها أكثر قدرة على الصمود: في الزراعة هناك منتوجات تحتاج للماء أكثر من غيرها. وكما رأينا في السنوات الأخيرة فإن الفيضانات التي هي أحد أهم مظاهر التغيرات المناخية قد أربكت حياة الناس الضحايا وأفسدت ما أفسدت.
من هذا المنطلق فإن كل دولة مطلوب منها وهي تضع برنامجها التنموي أن تنتبه إلى ضرورة امتلاك القدرة على الصمود أي القدرة التي يجب أن ترافق أي فعل تنموي في العالم اليوم، حيث الطبيعة أصبحت في تغيير مستمر بشكل استعادت به الكثير من غموضها وغضبها بعد أن اعتقد الإنسان الحديث أنه تمكن من ترويضها بالعلم.
إن التغيرات المناخية تمثل في حد ذاتها معضلة أمام الإنسانية اليوم، وبدأت هذه التغيرات تتمظهر وتلمس أكثر فأكثر على الأصعدة كافة. ذلك أن الصمود المقصود هو أيضاً متعدد الأبعاد تنموياً وصحياً ونفسياً.
طبعاً لا يفوتنا بالمرة القول إن الصمود هو أيضاً قدر الإنسان في الأرض وها هي الأرض كأنها تعود إلى سالف بداياتها ليعيش الإنسان قسوة الطبيعة ويعيد بناء علاقته بها على نحو يقطع مع الترويض الواثق إلى الصمود الحذر الذي لا يمكن إلا أن يكون نتيجة حالة مستمرة من الانتباه.