بقلم :راجح الخوري
يشكل الحطام الكارثي لإهراءات القمح في مرفأ بيروت، بعد ذلك الانفجار الذي هدم نصف العاصمة ودمّر ما تبقى من روح لبنان، صورة موازية تماماً لحطام الدولة اللبنانية التي تتداعى مؤسساتها وسلطاتها، والتي ربما لن يكون في وسعها أو لن يُسمح لها بالتوصل إلى نهاية واضحة للتحقيق في تلك الجريمة المروعة التي عدّها العالم جريمة العصر.
منذ الرابع من أغسطس (آب) من العام الماضي إلى اليوم صار واضحاً أن هناك إصراراً عند «حزب الله» على فرض معادلات متلاحقة ومتصاعدة، هدفها النهائي دفن التحقيق في انفجار المرفأ، وهكذا قامت محكمة التمييز في الثاني من يوليو (تموز) الماضي بكفّ يد المحقق العدلي الأول فادي صوان، الذي كُلّف التحقيق في الجريمة، بعدما طلب الاستماع إلى رئيس الحكومة السابق حسان دياب، وإلى وزيرين ونائبين سابقين مقربين من الرئيس نبيه بري، بحجة أنهم يتمتعون بـ«الحصانة الدستورية»، التي ستُستعمل كحجة وسلاح من «حزب الله» و«حركة أمل»، لمنع المحقق العدلي الذي خلفه، طارق بيطار، من المضيّ في التحقيق، ثم بدأت عمليات التصعيد لوقف التحقيق من خلال قيام حسن نصر الله شخصياً، بتوجيه اتهامات مباشرة إليه بأنه واقع في التسييس والاستنسابية، وأنه يعمل بإيحاءات أميركية، وأكثر من هذا قام مسؤول الأمن في الحزب وفيق صفا، بالنزول إلى قصر العدل وتوجيه رسالة إلى بيطار تهدد بقبعه مباشرة.
لكن المحقق بيطار لم يهتم وواصل عمله بعدما دعمته كل المراجع القضائية، التي لجأ إليها الحزب و«أمل» بهدف الطعن في صلاحيته بحجة «الارتياب»، وكان واضحاً تماماً أن هناك إصراراً على ضرورة طي التحقيق، وبالتالي التعتيم على كل ما تردد عن علاقة الحزب باستيراد كمية نترات الأمونيوم التي شكّلت القنبلة التي دمرت المرفأ وبيروت.
كل هذا معروف طبعاً، لكن في مواجهة إصرار المحقق بيطار على المضي في التحقيق، بدا واضحاً أن «حزب الله» ذهب إلى حشر الدولة في مقايضات وخيارات صعبة ومعقدة، فكانت أولاً محاولة وضعها أمام خيار من اثنين؛ إما قبع بيطار أو تعطيل الحكومة التي بالكاد بدأت أعمالها، وهكذا طلب وزراء المكوّن الشيعي من الحكومة أن تقوم بإبعاد بيطار أو أنها لن تتمكن عملياً من الاجتماع، حفظاً للميثاقية في غياب المشاركة الشيعية. ومع رفض تجاوز مبدأ الصلاحيات الدستورية، لأن ليس من صلاحية السلطة التنفيذية التدخل في شؤون السلطة القضائية، تعطلت أعمال الحكومة، في وقت يتركز الاهتمام على المباحثات مع صندوق النقد الدولي، ومع انهيار كارثي للأوضاع الاقتصادية في البلاد.
مع سقوط محاولة «حزب الله» مقايضة السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية، باعتبار أن قبع المحقق بيطار يعني عملياً تدمير سلطة القضاء كله، تدحرجت الأمور إلى خيارات أخطر وأبشع، أي المعادلة الجديدة: إما ضرب السلطة القضائية عبر قبع بيطار، وإما رفع الخطر إلى حافة حرب أهلية وفتنة داخلية، وهكذا كانت كما هو معروف، غزوة عين الرمانة تحت صراخ «شيعة شيعة» في 14 الشهر الجاري، وذلك بعد الإعلان عن القيام بمظاهرة احتجاجية للحزب و«أمل» أمام قصر العدل.
ورغم أن الطريق من الطيونة إلى العدلية لا تمر بعين الرمانة، التي لطالما شكّلت منطقة تماسٍّ حساسة بين الجانبين منذ الحرب الأهلية، فقد اقتحمت مجموعة من المتظاهرين أحد شوارع المنطقة حيث سقط سبعة جرحى من المواطنين، وحصلت بعدها اشتباكات أدت إلى سقوط سبعة قتلى و35 جريحاً من المقتحمين، الذين أمطروا المنطقة لأربع ساعات بالرشاشات والقذائف، ورغم تصريح وزير الدفاع موريس سليم، بأن «ما حصل في الطيونة ليس كميناً بل حادث مشؤوم، وأن التحقيق في الوقائع والإثباتات يحدد المسؤوليات فيما جرى»، وكذلك رغم إعلان الجيش أنه كان قد أمر جنوده بإطلاق النار على كل مسلح في الشارع، وأن أحد جنوده هو الذي بدأ إطلاق النار، لوقف الذين اقتحموا عين الرمانة تدميراً وتكسيراً، ذهبت الأمور إلى المعادلة الثالثة، أي مقايضة دماء المرفأ بدماء الطيونة، وهو ما أعلنه حسن نصر الله في خطابه، الذي اتهم فيه «القوات اللبنانية» ورئيسها الدكتور سمير جعجع بالمسؤولية عن سقوط القتلى في الطيونة، قائلاً إن حزبه هو الذي يحمي لبنان والمسيحيين في لبنان وسوريا أيضاً، وإن القوات دعمت «داعش» وما إلى ذلك من الاتهامات، إلى أن وصل إلى التهديد بأنه يملك مائة ألف مقاتل مدربين وجاهزين، يستطيعون إزالة الجبال، فيما بدا أنه تهديد أو تحذير أو تلويح بالقوة يتجاوز «القوات اللبنانية» إلى كل القوى المسلحة الأخرى حتى في لبنان والمنطقة والقول إن الأمر لي: «قعدوا عاقلين»!
رغم التخوّف من أن تذهب الأمور تكراراً إلى ما يشبه ما جرى في 14 الجاري، برز اتجاه جديد وهو دعوة الدكتور سمير جعجع لصقاً في مقره في معراب بوجوب الاستماع إليه كشاهد في مديرية المخابرات في اليرزة، وهو ما دفع البطريرك بشارة الراعي إلى القول: «نحن لا نقبل ونحن المؤمنون بالعدالة أن يتحوّل من دافع عن كرامته وأمن بيته لقمةً سائغةً ومكسر عصا، مع الحرص على أن تشمل التحقيقات جميع الأطراف لا طرفاً واحداً كأنه المسؤول عن الأحداث».
وكان جعجع قد صرح في وقت سابق، بأنه لا يمانع في الذهاب إلى التحقيق شرط أن يذهب حسن نصر الله قبله، وفي هذا السياق رفع عدد من المحامين بالنيابة عن الجرحى والمتضررين من أهالي عين الرمانة دعوى قضائية ضد نصر الله، ووجد الكثيرون أن تحريك القضاء العسكري في وجه جعجع، مع أن مسؤولية هذا القضاء يُفترض أن تُناط بالعسكريين لا بالمدنيين، قد يُخفي مراهنات واضحة على وضع الجيش في وجه محازبي القوات، الذين تجمعوا يوم الأربعاء الماضي، الذي كان قد حُدد للاستماع إليه، في مظاهرة سلمية امتدت على طول الطريق من الساحل إلى معراب مروراً ببكركي، قائلين إنه حتى لو أراد هو الذهاب إلى المحقق العسكري سنمنعه من ذلك، كل هذا في وقت لم يتردد البعض في القول إنه قد يكون هناك رهان على وضع الجيش في وجه القوات، ما يشكل رهاناً إضافياً على تطورات تؤدي إلى دفن التحقيق في جريمة المرفأ!
يوم الثلاثاء جال البطريرك الراعي على الرؤساء نبيه بري ونجيب ميقاتي وميشال عون، في وقت تحدثت فيه الأنباء عن مَخرج يمنع الانزلاق إلى الانفجار، وهو أن يعمد مجلس النواب إلى الادعاء على النواب والوزراء السابقين المدعى عليهم من بيطار بإحالتهم إلى «المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والنواب» الذي لم ولن يحاكم عملياً المنظومة السياسية التي خربت لبنان، بينما يبقى المحقق بيطار في مهمته لملاحقة الآخرين، وهذا يشكل طبعاً تشطيراً مستغرباً لمسار التحقيق في الجريمة، ليس واضحاً إذا كان سينجح أو إذا كان بيطار سيقبله أو أنه سيتمسك بصلاحياته ومنها ملاحقة النواب.. الراعي قال لبري: نريد أن يكون القضاء حراً ومستقلاً، لا قضاءً مسيراً واقعاً تحت الضغط الحزبي والطائفي، وأنه يستهجن استدعاء جعجع لمجرد أن هناك أشخاصاً تابعين لحزب هو مسؤول عنهم، وقد تعرضوا لاجتياح واعتداءات.
هل يشكّل هذا التشطير المستغرب لمسار التحقيق حلاً يوصل إلى كشف الحقيقة أو العدالة، أم أنه محاولة مموهة للتعتيم على المحاولات المتسلسلة للمقايضة بين دماء المرفأ ودماء الطيونة، خصوصاً في ظل حديث ميقاتي عن قرب عودة الحكومة المعطلة إلى الاجتماعات؟
يأتي كل هذا في وقت يتصاعد في المتاهة السياسية القتال على قانون الانتخابات لجهة الموعد وتصويت المغتربين، بما يجعل من تلويح نصر الله بمائة ألف مقاتل الوجه الآخر للعملة إياها التي تريد إلغاء الانتخابات لتُبقي الأكثرية في يدها، فهي تخشى عميقاً من نتائج الصناديق التي ترعد من جهة ضد «التيار الوطني الحر» كما تؤكد الإحصاءات، ومن جهة أخرى ضد «حزب الله» الذي يتسع التململ ضده حتى داخل بيئته، جراء ممارسات لا ترضى عنها بعدما عانت من زج أبنائها في حروب المنطقة، وبعد تساؤلها عن مبرر وجدوى غزوة عين الرمانة، التي أثبتت الوقائع ومئات الأفلام أنها تعرضت بدايةً للاقتحام من شباب الثنائي الشيعي الذين اجتاحوها محطّمين ومكسّرين!