بقلم - زاهي حواس
أبدع كلٌّ من الراحلين العظيمين أحمد رجب ومصطفى حسين فى رسم شخصيات كاريكاتيرية من قلب المجتمع المصرى؛ شخصيات حقيقية موجودة فى واقعنا.. لكنهما بعبقريتيهما رسماها بالقلم والريشة، وأمتعانا بفن راقٍ سيظل خالدًا مع ذكراهما فى الوجدان المصرى والعربى. وأتحدث اليوم عن شخصية «عبده مشتاق»، الذى كان دائمًا وأبدًا لا يقطع الأمل فى نيل منصب الوزارة، ودائمًا ما جلس بجوار الهاتف وبدلة حلف اليمين الزرقاء معلقة انتظارًا للمكالمة المنشودة!. وقد راهنت نفسى منذ أسابيع على أن شخصيات معينة أعرفها جيدًا ستخرج من بياتها الشتوى الطويل منذ آخر تغيير وزارى لتطل علينا فى هذه الأيام.. والسبب معروف بالطبع؛ هو انتشار الحديث عن قرب حدوث تغيير وزارى فى كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وعلى كل منصات التواصل الاجتماعى أيضًا. وبالفعل، بدأ خروج أكثر من عبده مشتاق فى هذه الأيام ولم يخيبوا ظنى بهم كعادتهم فى كل مرة!.
ولأننى أهتم بكل ما يمس الآثار، سأركز فقط على شخصية عبده مشتاق وزارة الآثار، وهذه المرة تجسدها سيدة وليس رجلا. فـ«عبده مشتاق» بدأت رحلتها مع الاشتياق لمنصب الوزارة منذ أحداث يناير ٢٠١١، والتى فتحت طاقات «وليست طاقة واحدة» لكل بليد ومتسلق لا يمتلك سوى حنجرة وصفحة على ما كان يطلق عليه فى الماضى القريب «فيسبوك» لأن يتطلع إلى نيل منصب أو جزء مما سموه «الكعكة». والمأساة الحقيقية هى أن هؤلاء كانوا يدمرون الوطن، سواء عن قصد أو دون قصد، فلم يكن الأمر يعنيهم فى شىء، المهم هو الوصول إلى المناصب التى كانت فى نظرهم وسيلة للشهرة والثراء معًا!. لقد عانيت شخصيًا كثيرًا من أكثر من عبده مشتاق حينما كنت فى موقع المسؤولية، سواء وأنا مدير عام لآثار الهرم، أو وكيل لوزارة الآثار، أو أمين عام المجلس الأعلى للآثار أو وزيرًا للآثار. مر علىَّ خلال سنوات عملى الطويلة أكثر من عشرين عبده مشتاق، كلهم حاولوا هدم كل عمل أقوم به وكل إنجاز أحققه، وكلما ترقيت فى المناصب بعملى وجهدى، زاد المشتاقون إلى هدم ما أبنيه!. كان هدفهم بالطبع هو البحث عن الشهرة والمنصب والمال.
لقد أطلقت على هؤلاء لقبًا فرعونيًا قديمًا هو «أتباع ست»؛ أى المناصرين لإله الشر فى مصر القديمة «ست». وكنت ولازلت أؤمن بأن السكوت على هؤلاء جريمة فى حق الآثار، وأنه لابد من عدم التهاون فى الرد عليهم ودحض أكاذيبهم وإفتراءاتهم، حتى وإن بدت لنا تافهة ولا تستحق الرد، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
هذا الرأى لم يكن أبدًا بهدف الدفاع عن نفسى، لكنه كان بهدف الدفاع عن الآثار التى تتأثر بأى آراء سلبية تنشر حولها، خاصة ونحن نعيش فى عصر السماوات المفتوحة، والعالم أصبح مثل قرية صغيرة، وكل ما يُكتب فى الداخل يُنقل إلى الخارج ويكون له تأثير بشكل أو بآخر. فمثلًا عندما أكتب دائمًا عن المتحف المصرى الكبير وكيف أنه مشروع القرن الواحد والعشرين، وأنه قد أصبح بالفعل أهم متحف آثار فى العالم كله، هنا تجد الناس يأتون من كل مكان بالعالم، ولو فقط لزيارة المتحف الكبير. ولو كتب أمثال عبده مشتاق أن الآثار تنهار وتضيع وأن كل شىء سيئ وقبيح، فلن يفكر أحد فى أن يأتى ليزور بلدًا يضيع ويدمر آثاره!.
أعود إلى السيدة المشتاقة لمنصب وزير الآثار، ولا مانع لديها بالطبع من أخذ السياحة مع الآثار فى وزارة واحدة، كذلك لا مانع لديها من تولى أى حقيبة وزارية أخرى، سواء من الحقائب الوزارية الموجودة أو التى قد تستحدث.. المهم أن يسبق اسمها لقب معالى الوزيرة!. السيدة التى كانت فى بيات شتوى خرجت تقدم نفسها للمرة العاشرة منذ يناير ٢٠١١، بالتويتات والصور ومقاطع الفيديو؛ أى بكل أسلحة العصر الحديث، أو على الأصح بكل ما لديها من مؤهلات، فهى للأسف لا تمتلك التاريخ العلمى أو المهنى الذى يؤهلها حتى أن تكون مسؤولة عن متحف الشمع، وذلك أملًا منها فى أن يسمع بها متخذ القرار. وكعادته، جاءت خطة السيدة عبده مشتاق هذه المرة فى الهجوم على الآثار وتحدثت بكل سخرية، متهمة القائمين عليها - وبالطبع نعلم من المقصود بهذا الهجوم- بأنهم يدمرون أعز ما نملك وهو آثارنا التى- من وجهة نظرها- تنهار وتضيع؟!.
تخيلوا مدى الاستخفاف بعقول الناس!.. وهل يُعقل أن يقوم كائنٌ مَن كان بتشويه وهدم الآثار ونحن نقف نشاهد ونتفرج حتى تهبط علينا هذه «السوبر وومان» لتفيقنا من سُباتنا وتحذرنا؟!. إننى لن أتهم السيدة عبده مشتاق بأنها تتعمد تشويه سمعة آثارنا فى الداخل والخارج، وسأفترض فقط سوء النية برغبتها المحمومة فى الوصول إلى منصب الوزير، وسأفترض كذلك أنها تفعل ذلك عن جهل بالآثار المدمرة لجريمتها.. ولكن يبقى السؤال هنا: هل تعنى حرية الرأى والتعبير الإثارة وافتعال البطولات الكاذبة؟ ألم يكن من الصواب التعبير عن الرأى بالطريقة الصحيحة وهى بكل بساطة إبداء الرأى المخالف ودعمه بالأدلة والبراهين؟.. مثلًا، يستطيع أى إنسان سواء كان أثريا أو مواطنا عاديا إبداء رأيه فى أى مشروع يقوم به المجلس الأعلى للآثار، وذلك عن طريق عرض ما يقوم به الأثريون ومهندسو الآثار بكل أمانة، ثم إبداء رأيه وما يراه من حلول إن كان لديه رأى أو فكرة. هذا ما يفهمه أصحاب الوعى عن حرية الرأى والتعبير، التى ليس من مفرداتها: «الحقوا يا ناس.. المسؤولين فى بلدنا بيدمروا الآثار!!»
إن السيدة عبده مشتاق لا تملّ من ارتداء زِى البطل المزيف الذى ينقذ الآثار ويهبُّ لنجدتها، وهى ما فعلت شيئا سوى الضرر بالآثار وببلدها.. لقد نجحت فى أن تخدع بعض المؤسسات التى- للأسف- شجعتها وفتحت لها أكثر من طريق للاستمرار فى بث سمومها.. وبعض تلك المؤسسات- للأسف- انخدعت فيها، والكثير منها كانت له أجندات خاصة ينفذها.. وهنا لا نعلم من كان هو المخادع ومن كان هو المغفل!.. المهم لا تزال عبده مشتاق الوزارة ترتدى قناع البطولة الزائف بزعم أنها حامية الآثار، ولم نجدها فى يوم من الأيام تكتب مقالًا علميًا واحدًا لتبرهن لنا على أنها تمتلك العلم الذى يؤهلها لقيادة العمل الأثرى وتحمل مسؤولية الآثار.
تمتلك مصر كنوزا أثرية تمثل جزءًا مهمًا للغاية من التراث الإنسانى العالمى. هذه الكنوز هى نعمة كبيرة وهبها الله لمصر وللمصريين، يتوارثونها جيلا بعد آخر، وهى فى نفس الوقت أمانة ثقيلة فى أعناقنا، إذا ما حفظناها عادت علينا بالفائدة العظيمة، أما إذا أسأنا إليها، فلا يمكن تعويض أى جزء نفقده من تلك الكنوز.
علينا جميعًا كمصريين أن نعيش على تراب هذا البلد، أن نحافظ على تلك النعمة، وأن ننقلها سليمة إلى الأجيال القادمة.. و«ليس هناك أمل فى الوصول إلى المستقبل إذا دمرنا الماضى».. هذا ما أحاول دائمًا تعليمه لأبنائى من شباب الأثريين الذين يحملون فوق أكتافهم ما تنوء الجبال بحمله.. فلنساعدهم بكل طاقاتنا ونُحسّن من أوضاعهم المعيشية الصعبة؛ لأن ما يقدمونه من مهام وتضحيات لصون أغلى تراث أثرى يستحق منا أن نقدم لكل واحد منهم نيشانا يضعه على صدره، لا أن يكون نصيبهم منا الهدم والسخرية.
نصيحة أخيرة للسيدة عبده مشتاق.. أعيدى التفكير فى طريقة أخرى للوصول إلى المنصب والشهرة.