بقلم - دكتور زاهي حواس
مرَّت أعوام كثيرة على وفاة صديقى الكبير الكاتب أحمد رجب، أيقونة الصحافة المصرية، والذى لا يزال يعيش في وجدانى ولا يزال صوته في أذنى، وقد جمعنى لقاء مع الفنانة ساندرا نشأت، منذ أيام قليلة، وجلسنا نستعيد ذكرياتنا مع صديقنا الراحل، الذي كنت أستمتع بمكالمته يوميًّا. كانت تجمعنى وأحمد رجب وعمر الشريف وأنيس منصور أجمل اللقاءات التي لا يمكن نسيانها. لذلك وجدت أن هناك ضرورة لأن أكتب عنه كما اعتدت منذ سنوات طويلة.
لقد تعودت اكتشاف حقيقة ما يحيط بى من أحداث وقضايا من خلال قراءة 2/1 كلمة لكاتبنا الراحل العظيم أحمد رجب، والتى تحولت إلى واحد من ملامح بلد بأكمله وليس منشورًا في صحيفة يومية فقط. كان أحمد رجب كاتبًا من طراز نادر أدهش الجميع بقدرته على التواصل مع الأجيال، كلماته القصيرة الجريئة صورة طبق الأصل من هموم وأحلام المصريين، يضع يده بذكاء فطرى على كبرى القضايا والأزمات التي تواجه المجتمع ويداويها بقلمه وكأنه جراح في خدمة الشعب. لم يكن أحمد رجب مجرد كاتب ساخر ولا هو مجرد مبتكر لكثير من الشخصيات الكاريكاتيرية الشعبية في الصحافة المصرية والعربية!، بل كان فيلسوفًا في هيئة صحفى. لم يكن يقدم على الكتابة إلا بعد أن يمتلئ خياله ووجدانه، وتفيض به نفسه ومشاعره ويصل إلى مرحلة التعبير بكلمات معدودة لكنها مُصاغة عن طريق فنان. كانت كلماته تعبيرًا صادقًا عن قضايا وهموم وطنه وأرضه وناسه، غير أنه تعبير يتفق ويتسق وما كان يحس به وما يُمليه عليه ضميره الحى لتظل كلماته وأعماله محفورة بداخلنا.
وفى تقديرى أن عظمة أحمد رجب وتفرده كانت تعود إلى ثقافته الواسعة ورؤيته الثاقبة وتحليله الواعى للأمور وكذلك فهمه للبشر والطبيعة الإنسانية. لقد كان واحدًا من أكبر مثقفينا؛ كاتبًا شاملًا له العديد من المؤلفات والإسهامات الأدبية والفنية المتنوعة من كتب ومسرحيات ونصوص أفلام سينمائية وتليفزيونية. كان يقرأ بنهم في شتى فروع المعرفة، ويطّلع على الإصدارات والإبداعات الأدبية والفنية، دائم التأمل في الأحوال المحيطة على مختلف مستوياتها. لقد تعلمت من أحمد رجب أن الكلمة القصيرة المركزة أشد تعبيرًا من مقالات طويلة قد لا يُكملها القارئ.
ولقد حاولت أن أدخل في عالم الفراعنة وأفتش بين جميع عباقرتهم وحكمائهم سواء كانوا مهندسين بنوا أعظم الأهرامات والمعابد والمقابر أو كُتابًا وفلكيين وكهنة وأطباء.. فلم أجد واحدًا منهم ينافس هذا العبقرى
المصرى الساخر أحمد رجب سوى «إيمحوتب»، رب المثقفين، كبير حكمائهم، الذي كانوا يرتلون اسمه وينثرون الماء البارد ترحُّمًا على ذكراه، وذلك قبل البدء في أي مشروع أدبى أو علمى.. وسألت نفسى: هل كان إيمحوتب يستطيع أن يكتب جملًا بسيطة تُغنى عن كتب بأكملها؟.
تأثرت شخصية أحمد رجب كثيرًا بنشأته في مدينة الإسكندرية الساحرة، فاكتست بهدوء البحر وثورته وعمقه في آن واحد، وجاءت دراسته للحقوق لتصقل شخصيته وموهبته، فأثناء دراسته في الكلية أصدر مع آخرين من رفاقه مجلة «أخبار الجامعة»، وكانت مدخلًا لعالم الكتابة والصحافة، حيث تعرف من خلالها على مصطفى وعلى أمين، وانضم بعد تخرجه مباشرة إلى «أخبار اليوم»، وعمل مراسلًا بها بالإسكندرية، وظل شهورًا يكتب ويرسل مقالاته إلى موسى صبرى، رئيس تحرير «مجلة الجيل»، وقتها، دون أن يقابله حتى جاء موسى صبرى في زيارة إلى مدينة الإسكندرية، والتقى أحمد رجب، وعرض عليه أن ينتقل إلى القاهرة ليعمل معه في «مجلة الجيل»، واستطاع من خلال موهبته الصحفية الفذة أن يصعد بسرعة الصاروخ ليصبح في غضون سنوات قليلة نائبًا لرئيس تحرير مجلة الجيل، وكانت في وقتها من أشهر المجلات الصحفية في مصر، ثم مديرًا لتحرير مجلة «هى» عام ١٩٦٤، وبعدها رفض أحمد رجب بإصرار غريب وعجيب أن يتولى منصب رئيس تحرير كل الصحف والمجلات التي عُرضت عليه، وفضّل أن يظل كاتبًا لمقاله اليومى الشهير 2/1 كلمة، وعندما سُئل عن سبب ذلك، قال إن الكاتب الصحفى يجب أن يتفرغ للكتابة حتى يبدع فيها.
ولأن أحمد رجب كان كاتبًا من العيار الثقيل، فقد قامت الدكتورة منار المراغى بكلية الألسن جامعة عين شمس بإعداد أطروحة بعنوان «الاتصال الجماهيرى المكتوب، دراسة لغوية تطبيقية»، واتخذت الدكتورة منار من عمودى أحمد رجب «2/1 كلمة» و«الفهامة» نموذجًا لذلك، وقد أكدت الدراسة أن أحمد رجب هو واحد من الكُتاب القلائل الذين تتوافر لديهم القدرة على صياغة لغتين متباينتين متناقضتين من ألوان العمود الصحفى وهما «2/1 كلمة»، و«الفهامة»، محافظًا فيهما على اختلاف التقنيات الأسلوبية والنوعية الخاصة بكل منهما؛ ويبدو جليًّا أن ما استوقف الدكتورة منار المراغى هو لغة أحمد رجب الثرية وأسلوبه الفريد في الكتابة لدرجة أن الظواهر اللغوية التي يستخدمها لا نستطيع إحصاءها بسبب تنوعها وكثرتها وتجديده لها باستمرار، مما يوفر لأى باحث مادة غنية تُغرى بالبحث والدراسة المتعمقة. كان أسلوبه في الكتابة يعتمد على السخرية ومفارقة النغمة، أو السخرية عن طريق كسر المزاوجات اللفظية، أو التعريض، وهو يأتى في مقدمة كُتاب الأعمدة الصحفية في التقريب بين الفصحى والعامية، كما أنه كان لديه في الكتابة الكثير من الأساليب الإقناعية وأهمها الأساليب اللغوية في استخدام الأسلوب الشرطى، والأسلوب الاستفهامى، كما أنه كان- كما ترى الدكتورة منار المراغى- يُعد أول مَن استخدم فن «الإبيجرام النثرى» في العمود الصحفى، والذى يتسم بإيجاز العبارة وتكثيف المعنى وحسن الختام، الذي غالبًا ما يكون ختامًا مفارقيًّا يثير القارئ ويدفعه إلى قدح زناد فكره ليصل إلى المعنى الخفى المقصود من الرسالة.
قليلون جدًّا مَن كانوا يعرفون ما يدور بداخل عقل وقلب أحمد رجب، ولم أرَ في حياتى إنسانًا منغلقًا على نفسه بمثل هذه الصورة، فلا أحاديث صحفية ولا برامج تليفزيونية ولا يمكن لأحد أن ينتزع منه تصريحًا أو رأيًا في أي قضية وينشرها على لسانه، ولعل صمته كان سببًا واضحًا في انه أمضى حياته العملية دون اشتباكات على الرغم من انتقاداته اللاذعة لكبار المسؤولين ورجال الدولة.
لقد أصبحت شخصيات أحمد رجب التي أبدعها مع ريشة الفنان العظيم مصطفى حسين جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وتحظى بمتابعة ملايين القراء، الذين كانوا ينتظرونه كل صباح؛ حيث يضرب بها الناس المثل إذا أرادوا أن يعبروا عن أوضاع مجتمعهم المقلوبة، أمثال عبده مشتاق، الذي يحلم بكرسى الوزارة عند سماع أي خبر عن تعديل وزارى في الطريق، وكمبورة الانتهازى الفاسد، الذي كوّن ثروته مستغلًّا الانفتاح الاقتصادى غير المنظم في عصره، وعبدالروتين، البيروقراطى، الذي يسعى دائمًا لتعطيل مصالح الناس، إلى جانب حوارات عزيز بيه الأليط مع الكُحِّيت المُدَّعِى.