بقلم - زاهي حواس
تذكرت، هذا الأسبوع، ثلاثة من أعز الأصدقاء الذين رحلوا عن دنيانا تاركين فراغًا كبيرًا في الحياة الفنية والأدبية والصحفية، ولكن بوجه خاص أفتقد حديثهم وصحبتهم الجميلة، وقد تعلمت منهم الكثير، وهؤلاء هم عمر الشريف وأحمد رجب وأنيس منصور، واليوم أكتب عن عمر الشريف.
رغم السنوات التي مرت على رحيله، ورغم معاناة السنوات الأخيرة في حياته مع المرض، فمازلت أذكر تفاصيل صداقتى بعمر الشريف، هذا الفنان العالمى، الإنسان العظيم، الذي أعترف بأنه رغم أننا كنا نختلف كثيرًا، وفى بعض الأحيان نتخاصم، فإن اللقاء مع عمر الشريف كان دائمًا له طعم مختلف ومميز. وقد قرأت مؤخرًا أخبارًا وشائعات تنال من عمر الشريف، وصلت للأسف إلى حد التشكيك في ديانته، وهو في ذمة رب العالمين!. دائمًا ما يبحث الناس عن أخبار النجوم وحياتهم وأسرارهم، وكثيرًا ما تنتشر الشائعات عن حياة هؤلاء، لكن أن تنال من حرمة الأموات، حتى وإن كانوا في يوم من الأيام من الرموز وعلى قمة النجومية، فذلك هو الأمر المرفوض تمامًا.
تعرض عمر الشريف في حياته للكثير من الشائعات، وكان تعامله معها دائمًا بالإهمال، حيث كان من هؤلاء النجوم الذين يحرصون على الاستمتاع بحياتهم وبكل لحظة يعيشونها، ومفهومهم عن الحياة أكبر وأعمق من أن يعطوا للشائعات أي اهتمام أو مساحة ضئيلة يتوقفون عندها. كان الحديث مع عمر الشرف متعة كبيرة لتعدد خبراته وحياته المثيرة والمليئة بالأحداث والقصص التي عاشها، والتى يحلو له دائمًا الحديث عنها كلما اجتمعنا مع الأصدقاء.
اعترف عمر الشريف بأن النجومية في السينما العالمية جاءته مصادفةً عندما كان ديفيد لين يبحث عن شاب عربى يقوم بدور الأمير حسين في لورانس العرب، وأن السبب في اختياره هو أن والدته وضعته في مدرسة إنجليزية داخلية حتى ينقص وزنه الزائد، واستطاع أن يتعلم اللغة الإنجليزية بطلاقة، ولذلك كان طريقه للسينما العالمية، واختير لأداء هذا الدور.. وعاش عمر في صحراء المغرب لأكثر من عام ونصف العام، وصادق العديد من نجوم ومشاهير هوليوود. ولازلت أذكر وقت أن أُعيد عرض لورانس العرب، في نسخته الجديدة، وكنت في ذلك الوقت أعيش بمدينة دالاس، وكنت أسمع كلمات الثناء من الأمريكان وهم يرون هذا الشاب المصرى يؤدى هذا الدور الجميل.
وأهم الأفلام في رأيى التي قام عمر ببطولتها هو فيلم دكتور زيفاجو، وحينما عُرض الفيلم في دُور السينما الأمريكية لم يصادفه النجاح في أسبوعه الأول. وقابل عمر ديفيد لين المخرج في أحد مقاهى نيويورك ليناقش معه أسباب عدم نجاح الفيلم، ووجد ديفيد يقول له إن السبب هو مونتاج «تركيبة» الفيلم، ولذلك قام بأخذ النسخة الأصلية، وبدأ في إعادة ترتيبها، وشوهد الفيلم مرة أخرى، وأصبح العالم كله يتحدث عنه. وكان عمر في ذلك الوقت يعيش بعيدًا عن مصر في هوليوود. ولم يعد إلى مصر إلا عندما قابل الرئيس السادات في حفل أُقيم في البيت الأبيض، وتلقى عمر الدعوة بصفته نجمًا مصريًّا كبيرًا، وعندما رآه السادات استقبله بحرارة شديدة، وبلهجته المميزة، طلب منه أن يعود إلى مصر، بل دعاه إلى أن يحضر فرح ابنه جمال في مصر، وفعلًا عاد عمر الشريف إلى مصر مرة أخرى، ومنذ ذلك الوقت ووطنه مصر هو حبه وعشقه. كان يأتى للزيارة كثيرًا، بعد أن صادف عقبات كثيرة في عهد عبدالناصر. وقد دُعيت أنا وعمر عن طريق رئيس جمهورية الدومنيكان لكى أحصل على الدكتوراه الفخرية، ويتم تكريم عمر في مهرجان السينما هناك، وعرفت من سفيرة الدومنيكان أن أهم شىء في حياة رئيس الجمهورية أن يرى عمر الشريف، وقد احتفى شعب الدومنيكان بعمر وقابلوه بحفاوة هائلة، وفى حفل افتتاح المهرجان حضر عمر محاضرة لی، وبعد المحاضرة ذهبنا لمقابلة رئيس الجمهورية، ومعنا «طارق»، ابن عمر الشريف والفنانة فاتن حمامة، وكان هذا هو موعد العشاء، وقابلنا الرئيس، الذي قال إن هناك مفاجأة لنا، ودخلنا معه إلى قاعة السينما، وبدأ عرض فيلم د. زيفاجو، ووجدت عمر الشريف في حيرة وضيق لأن الفيلم سوف يستغرق ثلاث ساعات، وموعد العشاء مقدس بالنسبة له، وخفت أن تحدث أزمة بين الرئيس وعمر، واستمر الفيلم حتى ظهر طفل صغير في يده ورود وهو يرميها على قبر أمه، وكان هذا الولد هو الطفل طارق عمر الشريف، وانتهى الفيلم عند هذا الحد، ووقف رئيس الجمهورية وقال لنا إن كل ما أراده هو أن يجعلنا نشاهد «طارق» وهو في السابعة من عمره وهو الآن في الخامسة والخمسين من عمره (فى ذلك الوقت).. وضحكنا وذهبنا إلى العشاء، وكان عمر سعيدًا بعدم تخلفه عن موعد العشاء، ولم يحدث ما يعكر صفو وجمال هذه الرحلة الرائعة.
وتمتد معرفتى بعمر الشريف إلى عام ١٩٧٧، عندما حضر إلى القاهرة في إحدى زياراته، وكان يومها متعاقدًا على أن يكون الراوى لفيلم عن الأهرامات المصرية، وعندما تقابلت مع ليزا تراوت، المسؤولة عن الإنتاج بلوس أنجلوس، لوضع اللمسات النهائية للمادة العلمية، التي كتبتها لهذا الفيلم، ذكرت لها مدى إعجابى بعمر الشريف، الذي أتمنى أن يكون هو الراوى لهذا الفيلم. ولم تكن علاقتى بعمر قد توطدت بعد، وتوقفت عند حد المقابلات العابرة السريعة خلال مراحل تصوير فيلم الأهرامات. وحدث أن دعتنى ليزا أنا وعمر إلى العشاء في أحد مطاعم القاهرة في الساعة الثامنة مساء، وقالت ليزا لعمر إنها دعتنى أيضًا إلى العشاء، وقال لها عمر إننى سوف آتى بعد ساعة، ولكنها أكدت له أن مواعيدى مضبوطة، وكان عشاءً لا يُنسى، حيث أصبحت وعمر بعده صديقين.
وغالبًا ما كانت تحدث مشادات بينى وبين عمر، وتستمر لدقائق فقط، ونتصالح بعدها، وأذكر أنه عندما قلت له رأيى في مسلسل حنين وحنان، وأنه تسبب في ملل بعض الشىء، تحول إلى ثور هائج، وتركت له العشاء، وفى اليوم التالى كلمنى، وكأن شيئًا لم يكن، وتقابلنا أنا وهو والكاتب الكبير أحمد رجب لنتصالح، وقلت لعمر إننى لم أذكر له رأيى بصراحة في مسلسل حنين وحنان، فلما سألنى: ما هو؟، قلت له إنه مسلسل مُمِلّ جدًّا!. وهنا انفجر عمر في الضحك!.
عمر الشريف شخص لن يتكرر، حيث كان صريحًا لدرجة كبيرة، ومنضبطًا في مواعيده، ويأكل مرة واحدة يوميًّا، وهى وجبة العشاء، التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تتأخر إلى ما بعد السابعة مساءً. وكان رحمه الله يقول: «أخاف أن أموت قبل أن أتناول العشاء». كنا نتقابل بصورة شبه يومية عندما يكون في مصر ومعنا صديق العمر الراحل أحمد رجب والفنان العبقرى يحيى الفخرانى والفنانة العظيمة لبلبة.
أذكر أننى عندما سمعت خبر مرض عمر، وكان لا يزال في بدايته، قررت أن أذهب إلى باريس لكى أطمئن عليه، ووجدته يقيم في فندق أنيق، كل شىء فيه ينطق بالفن والإحساس العالى بالجمال بجوار الشانزليزيه. كنت خائفًا وأنا أتصل بهاتفه لأخبره بقدومى إلى باريس ورغبتى في العشاء معه ومعنا صديق أمريكى وزوجته، وكانت المفاجأة عندما رد بنفسه على التليفون، وبمجرد سماع صوتى وجدته ينهال علىَّ ترحيبًا، وكان سؤاله لى عن أحوال مصر. تقابلنا، وذهبنا معًا إلى العشاء في مطعم قديم بجوار متحف اللوفر، وكانت زوجة صديقنا الأمريكى من عشاق عمر الشريف، وقالت إنها عندما شاهدت عمر وهو يمتطى جواده في فيلم لورانس العرب، تأكدت أنه فتى أحلام كل نساء العالم!. انتهينا من العشاء، وأصر عمر على دفع الحساب، على الرغم من أننا نحن مَن دعوناه، لكنه كان، رحمه الله، شهمًا كريمًا إلى أقصى درجة. كان عمر الشريف مثل فرسان الروايات الخيالية.