بقلم -زاهي حواس
فى عام ١٨٨٧م، حصل فلندرز بترى على تصريح بالحفر فى منطقة هرم هوارة بالفيوم، وذلك من مصلحة الآثار، التى كان يترأسها فى ذلك الوقت الفرنسى أوجست باشا مارييت.
هذه الحفائر تمثل اللبنة الأولى الحقيقية فى مجد وأسطورة السير وليام ماثيو فلندرز بترى، الذى يُلقب بـ«أبوعلم المصريات». وُلد «بترى» بالقرب من لندن فى عام ١٨٥٣م، ولم ينَلْ أى تعليم نظامى فى حياته، لكنه اعتمد على أبيه، الذى كان مغرمًا بعلم القياس والرفع المساحى وعلوم الهندسة والحساب. وكانت هواية الفتى الصغير «بترى» الترحال، حاملًا على كتفه أدوات القياس البسيطة وتليسكوبًا للرفع المساحى. وفى إحدى الأمسيات العائلية الدافئة بفعل نيران المدفأة وتجمع الأسرة، أسَرَّ الأب لابنه بحلم حياته، وهو رفع قياسات الهرم الأكبر الذى هو بمصر، وبدأ الأب يقص على ابنه القصص والحكايات عن هذا الأثر الفريد، وتسرب حلم الأب إلى صدر الابن، حتى جاءت الفرصة لـ«بترى» للسفر إلى مصر، بمنحة صغيرة من صندوق دعم الآثار بلندن، وذلك فى شهر نوفمبر سنة ١٨٨٠، على وعد أن أباه سيلحق به بعد إنهاء أعماله فى لندن ليحققا حلمهما معًا.
وصل «بترى» إلى الإسكندرية بعد شهر تقريبًا من الإبحار فى ظروف عاصفة كادت تودى بحياته مبكرًا، وفى خلال أسبوع واحد فقط كان «بترى» قد استقر داخل مقبرة صخرية بالقرب من هرم الملك خوفو، وقد اشترى لنفسه بقروش قليلة سريرًا حديديًّا ومرتبة وزِيرًا من الفخار وطشتًا للاستحمام!. كان «بترى» ينام بمفرده داخل المقبرة، ولا يؤنس وحدته سوى أصوات الذئاب تشق سكون الليل، حتى ظن أهالى قرية نزلة السمان القريبة أن الشاب الأجنبى (مخاوى) الجن والعفاريت. أمضى «بترى» قرابة الأشهر الخمسة وهو يأخذ القياسات ويقوم بأعمال الرفع المساحى بأدواته الفقيرة، ولكنه فى نهاية العمل استطاع أن يقدم للعالم أول دراسة علمية حقيقية عن هرم الملك خوفو، الأمر الذى جذب إليه أنظار مُحِبّى الآثار المصرية، بعد أن وجدوا شيئًا مختلفًا فيما قدمه «بترى»، الذى علّم نفسه بنفسه مثل المفكر والأديب المصرى العظيم عباس محمود العقاد.
كان «بترى» يراقب ما يقوم به الأجانب، أمثال مارييت باشا وغيره، من تدمير المناطق الأثرية بحثًا عن الآثار، ولم يكن هؤلاء يتورعون عن استخدام البارود والمفرقعات لإزالة الأحجار الجرانيتية التى تعترض طريقهم، دون أى شعور بالذنب نحو ما يقومون بتدميره وتحطيمه. وكتب «بترى» يصف المشهد بقوله: «بعد سنة من وجودى فى مصر، أحسست أنها مثل البيت المشتعل، يجرى تخريب آثارها بسرعة مذهلة، وأعمال النهب والسلب على أشدها». كان هذا سببًا مباشرًا فى تحول اهتمام فلندرز بترى من مجرد رفع القياسات للمقابر والمعابد إلى اعتماد طرق ووسائل جديدة للحفائر والكشف عن الآثار. وللأسف، رفض صندوق لندن لدعم الآثار تمويل «بترى»، وتكفلت السيدة إيميليا إدواردز بإقناع أعضاء مجلس إدارة الصندوق بتمويل الباحث الشاب، بعد أن استطاعت نشر عدد من المقالات المشوقة عن آثار مصر فى جريدة لندن تايمز، اعتمادًا على مقالات «بترى»، المنشورة فى الدوريات العلمية.
بدأ «بترى» أولى حفائره فى منطقتى تانيس ونقراطيس، مُتَّبعًا أسلوب حفر خنادق مستقيمة طولية لتسجيل الشواهد واللقايا الأثرية، بعد أن كان أسلوب الحفر لمَن سبقوه هو عمل حفر دائرية عميقة على هيئة آبار وصولًا إلى الآثار، التى تُنتزع من مواضعها، دون أى دراسة، لتُوضع مؤقتًا حول الحفرة لحين تصنيفها وبيعها إما لتجار الآثار أو مباشرة إلى المتاحف والأثرياء لتزين قصورهم!. والغريب أن أسلوب الحفر هذا هو الذى لا يزال يتّبعه لصوص الآثار إلى يومنا هذا، ولذلك يموت كثيرون منهم تحت أنقاض الآبار المنهارة على رؤوسهم، والتى قاموا بحفرها عشوائيًّا. وكان مارييت باشا للأسف يتّبع هذا الأسلوب فى الحفر، وكان من عادته ترك أمر الحفائر لمشرفين يقوم بتعيينهم، بينما يقتصر دوره على زيارة موقع الحفائر مرة كل أسبوعين أو ثلاثة. وما كان يحدث فى حفائر مارييت باشا أمر لا يصدقه عقل، ويستحق أن يوضع ضمن أحداث رواية أو قصة لفيلم أو نص سيناريو لمسلسل تليفزيونى.
كان مارييت باشا يمتلك حق تشغيل العمال والفلاحين بنظام السخرة. وكان من عادته ترك الأمر للمشرفين وفرقة من العساكر ليقوموا بالقوة بتسخير الفقراء من الفلاحين من القرى والنجوع القريبة من مناطق الآثار، وفى نفس الوقت يتفرغ المشرفون لجمع الرشاوى والهدايا من الموسرين من الفلاحين وأصحاب الأراضى لإعفاء تابعيهم من العمل بالسخرة، وكان هذا الأمر يُدِرّ على رجال «مارييت» الكثير من المال. ولذلك كان من مصلحتهم فى المقام الأول استمرار الحفائر وعدم توقفها لأى سبب، حتى إنهم كانوا يلجأون أحيانًا إلى شراء الآثار من تجار الآثار ووضعها بموقع الحفائر لإيهام «مارييت» بأنها من نتاج الحفر!، والعكس أيضًا صحيح!، حيث يقومون أيضًا فى حال كثرة الآثار المكتشفة بإخفاء جانب منها لاستخدامه لاحقًا إما فى موقع آخر أو حتى بيعه وتهريبه.
فى الحقيقة لم يكن أسلوب الحفر الذى اتّبعه «بترى» بالأسلوب الأمثل، وذلك وفق معايير علم الحفائر اليوم، وبعد مضى ما يقرب من ١٤٠ سنة منذ ابتدع «بترى» أسلوبه المُشار إليه، ولكن لابد من أن نُقِرَّ بأنه كان أفضل بكثير من طرق الحفر المعاصرة له فى زمانه. واستطاع «بترى» تدريب كثير من العمال على كشف الآثار وصيانتها، بل نستطيع القول إنه تربى على يديه أجيال من الأثريين والعمال المهرة فى الحفائر، خاصة بعد أن نقل حفائره إلى الصعيد، واتخذ من رجال وشباب مدينة قفط أساسًا لفريق عمله. ويُحسب لـ«بترى» كذلك أنه لم يتّبع أسلوب السخرة فى العمل، ولكن كان يقوم بتشغيل العمال نظير أجر يومى، وكان من عادته مكافأة العامل الذى يُحسن العمل وكشف الآثار.
فى منطقة هوارة، قام «بترى» بإنشاء معسكر صغير للعمل حول هرم الملك أمنمحات الثالث المبنى من الطوب اللبن، وقد قام بنصب خيمة لنفسه من الخيش بها السرير الحديدى والزير والطشت. وبعد أسبوع واحد من العمل، كان «بترى» قد نجح فى الكشف عن واحدة من أروع الجبّانات الرومانية فى مصر، تحتوى على مئات المومياوات السليمة، التى لم تُمس منذ لحظة دفنها إلى يوم أن أزاح «بترى» الرمال عنها، ليكشف عن مومياوات لرجال ونساء وأطفال مُزيَّنة بأقنعة على وجوهها تحاكى صورة المتوفى، وملونة بألوان بديعة. سُميت هذه الأقنعة «وجوه الفيوم». وكان من عادة «بترى» أن يقوم بتخزين المومياوات الجميلة الكاملة أسفل السرير الذى ينام عليه فى خيمته خوفًا عليها من السرقة والنهب من الموقع.
قام «بترى» بإرسال عشرات الصناديق الخشبية المليئة بالآثار إلى متحف بولاق، امتثالًا لأوامر رئيس المصلحة، مارييت باشا. وللأسف، حزن «بترى» كثيرًا عندما عاد إلى القاهرة، ووجد أن الصناديق التى تحتوى على مئات الأقنعة الجنائزية، التى لا مثيل لها فى العالم، ملقاة فى حديقة المتحف، تعانى الحرارة والرطوبة ومياه الأمطار!. الأمر المحزن فعلًا أن عددًا قليلًا فقط من هذه الأقنعة هو الذى تم إنقاذه، وهو معروض اليوم بالمتحف المصرى بالتحرير بالطابق العلوى. وقد فاز «بترى» بعدد لا بأس به من هذه الأقنعة وآثار أخرى من الجبّانة، قام بعرضها بقاعة بيكاديللى بلندن. وهى نفس القاعة التى استضافت، قبل أكثر من ستين عامًا، المعرض الذى أقامه جيوفانى بلزونى، الذى تحدثنا عنه فى المقال السابق. كان ضمن الحضور رجال ونساء امتد بهم العمر لزيارة المعرضين، واكتشفوا الفرق بين معرض الصعلوك المغامر الإيطالى «بيلزونى»، ومعرض آثار «بترى»، أول مَن وظّف العلم فى الكشف عن الآثار. هاجر «بترى» إلى القدس، بعد أن بلغ الستين من عمره، ومات هناك بالملاريا، بعد أن تخطى التسعين من عمره.
فى أواخر عام ٢٠٠٧، دُعيت لإلقاء محاضرة عامة بقبة الألفية، التى استقبلت معرض الفرعون الذهبى توت عنخ آمون، وبعد المحاضرة فوجئت برجل إنجليزى مهندم يقف بكل احترام ووقار ليبادرنى بالسؤال: «دكتور حواس!، فى كل محاضراتك تدعو إلى عودة الآثار المصرية إلى بلدكم مصر، وأنا من عشاق حضارتكم العظيمة وآثارها وفنها الفرعونى الجميل، ولكن دعنا نتخيل أن كل آثار الفراعنة، المنتشرة فى كل المتاحف العالمية، والآلاف منها بالقصور والمجموعات الخاصة، قد عادت، فأين ستقومون بحفظ ملايين القطع الأثرية هذه؟!»، صمتُّ للحظات، وقلت له: «أتمنى أن يعود كل أثر مصرى إلى موطنه مصر، وصدِّقنى عندنا المتاحف الإقليمية والموقعية والرئيسية مثل المتحف المصرى والمتحف الكبير الذى بدأنا بالفعل فى إنشائه، وأؤكد لك أننا سنجد لآثارنا مكانًا بمتاحفنا، وسنبنى لها متاحف جديدة إذا لزم الأمر. سنفعل كل شىء للحفاظ على تراثنا، والأمر المؤكد أننا لن نضعها أسفل السرير، مثلما فعل العالِم الإنجليزى (بترى) خوفًا عليها من السرقة والنهب!». ضجّت القاعة بالتصفيق والضحك.. وخرجت وأنا أفكر فى شعور «بترى» وهو نائم على سرير وأسفله مومياوات مُحنَّطة، استخرجها للتو من قبورها!.