بقلم- مشاري الذايدي
الوعي بالذات الجماعية له منابع كثيرة من أهمها الوعي بالتاريخ، ومن مرتكزات هذا الوعي استيعاب المظاهر المادية للهوية، في مقدمها بقايا الماضي المجسدة: نقوش ومنحوتات وهياكل بنائية ومدن مدفونة في الرمال أو مغمورة في البحار.
اليوم تطلق السعودية فعالية وزخماً دافقاً في الالتفات للذات الحضارية، وثمة جهود رسمية وأهلية متواترة بهذا الصدد، ورأينا جملة طيبة من مبادرات وزارة الثقافة السعودية لتعزيز واكتشاف عناصر الهوية الحضارية السعودية، بالمناسبة يعقد هذه الأيام مهرجان ثقافي وفني عن شاعر اليمامة الكبير، الأعشى، صاحب إحدى المعلقات العشر.
لكن أهم أداة علمية وعملية محترفة لكشف طبقات التاريخ المادي، هي عمليات الحفر والتنقيب الآثاري، وفي هذا الصدد فإن هذه المساعي ما زالت ضعيفة في البلاد، ما عدا الأعمال الاحترافية المعلومة في العلا والفاو.
ربما كان بسابق الوقت ثمة عذر في هذا الفوات، وهو المقاومة الآيديولوجية لأي تنقيب علمي أثري عن الماضي، بحجة أو بأخرى، لكن ما هو العذر اليوم. كما يشير العالم والباحث السعودي في الفولكلور والأنثروبولوجيا، د. سعد الصويان.
د. سعد كتب مقالة لافتة في صحيفة عكاظ السعودية تحت عنوان «آثار السعودية ستعيد كتابة تاريخ الإنسان». ومما جاء فيها أن البحث الأثري تركز في منطقة الشرق الأوسط حتى الآن على وادي النيل ومنطقة الهلال الخصيب، كما نالت بلاد اليمن والبحرين قسطاً لا بأس به من البحوث الأثرية. لكن وسط الجزيرة العربية ظل حتى الآن مهمشاً.
مع وجود جهود مشكورة ورائدة في هذا المجال - كما يؤكد الصويان - من طرف الرحالة والمغامرين المحليين وبعض الجهود الإعلامية وعلى رأسها برنامج (على خطى العرب) الذي يقدمه ويقوم عليه الباحث السعودي د. عيد اليحيى، وهو البرنامج الوثائقي الذي «لبى حاجة ماسة لتوعيتنا ولفت أنظارنا إلى عظمة التاريخ السحيق الموغل في القدم لبلادنا». كما يلفتنا د. سعد.
قيمة هذه المكتشفات حتى الآن، وبجهود متواضعة، يقول الصويان، ربما تعادل في حجمها ما هو موجود في الشرق الأدنى قاطبة!
كيف يمكن تعزيز هذه الأعمال الحيوية وإدامتها؟
يقترح عالم الأنثروبولوجيا السعودي على وزارة الثقافة السعودية «تأسيس جمعية لأصحاب المتاحف الشخصية وجمعية أخرى للرحالة السعوديين». ورفد هذه الجمعيات بالمال الوفير والدعم بكل صوره، لكن هذا الدعم لا يقع فقط على عاتق الدولة - فهذا مفروغ منه - ولكن أين دور رجال الأعمال السعوديين في مثل هذه المساعي الرفيعة!؟ فهذه، كما يؤكد د. سعد: «ليست مسؤولية الدولة فقط، وإنما مسؤولية الأثرياء والمؤسسات المالية في البلد».
لولا الخشية من التشعب في الحديث، لسألت رجال الأعمال السعوديين، بما أن الحديث عن السعودية، أين هم من دعم الدراسات الإنسانية والمراكز الثقافية، وتخصيص المال والبعثات المتعلقة بالفنون العليا والتنقيب في كل طبقات الذات الحضارية، وليس الآثار المادية فقط... لو كانت ثمة فسحة للسؤال.