أتاح لها لسان حسود

... أتاح لها لسان حسود!

... أتاح لها لسان حسود!

 العرب اليوم -

 أتاح لها لسان حسود

بقلم : تركي الدخيل

قيل: إن أول ما عُصي اللهُ به... الحسد!

فلولا رفضه السجود، لما نبتت التفاحة في مخيال الشعراء، وهم يتصوَّرون شكل الخطيئة!

أحسبُ أن تعريف الحسد، حُصِر مع الوقت، ولم يتطور كثيراً، كما ينبغي، خصوصاً، مع تفنن الإنسان في ممارسة هذا السلوك، وتنويع أشكاله، منذ تبني أصحاب الوشايات، في أداء حسدهم، دور المشفق، المنصف، المصلح، الأمين، على كثرة الحاسدين، ومر السنين.

قيل إن الحسد هو تمني زوال نعمة غيرك، وربما كانت هذه الأمنية، شكل برعم الحسد في منبعه، لكن الأكيد، أنه لم يتوقف يوماً عند التمني، بل تطور إلى أفعال يندى لها جبين إبليس!
لو توقف الأمر، عند تمني زوال النعمة، دون عمل جاد دؤوب على تحقيق الأمنية، لأصبح الحساد المتمنون زوال النعمة دون عمل، اليوم، من الأنقياء الأتقياء!

حاولت طويلاً، فهم بواعث الحسد، ولماذا يختار بعض هذا الاختيار الرديء، على فضيلة الفرح للآخرين والسعي لنفع الناس، أو تجربة الحياد ولو مرة على الأقل... وتساءلت مراراً: هل الحسد جيني بحت؛ إذ تجد في بيتٍ شقيقين من بطن واحد، أحدهما يتمنى الخير لغيره ويبذل كل وسع لذلك، في حين رضيعه من يصبح على حسد، ويمسي على بغض، وكأن هطول الرزق على الناس، يصيبه بحجارة من سجيل!

قيل إن المجد مقرون بالحسد، وقيل إن النعم تمر بجوار الحاسد، لتستقر في أعطاف المحسود وثناياه، فيزيد مرضه وتستعر بالنار قلبه، ويتقلب في غلوائه، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها!
الأعجب، أن المجتمعات المتحضرة، تُمَيّز الحاسد ولا تجد تفسيراً لعلته، بل تتجنبه تجنب المجذوم، وتتواصى بمجافاته، والفرار منه. في الأثر: «الحاسدُ لا ينالُ مِنَ المجالسِ إلّا مَذَمّة وذلاً، ولا ينالُ مِنَ الملائكة إلّا لَعنةً وبُغْضاً، ولا ينالُ من الخَلْقِ إلّا جَزعاً وغَمّاً، ولا ينالُ عندَ النَّزْعِ إلّا شِدّة وهَولاً، ولا ينالُ عندَ الموقفِ إلّا فَضِيحة وهَواناً ونَكَالاً».

وأجمل بحديث القاضي الجرجاني، عن أصل علة التحاسد؛ إذ قال: «التفاضل - أطال الله بقاءك - داعية التنافس؛ والتنافسُ سبب التحاسد؛ وأهل النقص رجلان: رجل أتاه التقصيرُ من قبله، وقعد به عن الكمال اختياره، فهو يساهم الفضلاء بطبعه، ويحنو على الفضل بقدر سهمه. وآخر رأى النقص ممتزجاً بخلقته، ومؤثلاً (أي مؤصلاً) في تركيب فطرته، فاستشعر اليأس من زواله، وقصرت به الهمة عن انتقاله؛ فلجأ إلى حسد الأفاضل، واستغاث بانتقاص الأماثل؛ يرى أنَّ أبلغ الأمور في جبر نقيصته، وستر ما كشفه العجز عن عورته؛ اجتذابهم إلى مشاركته، ووسمهم بمثل سمته»، ثم أتبع الجرجاني جميل عبارته، وبليغ موجز عبارته، بالاستشهاد الحسن، فكان بيت أبي تمّام:

وإذا أرادَ اللهُ نشرَ فضيلةٍ

طويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ

فهل الحسد تعويض نقص دائم؟ أم هو باب من أبواب لا نعرفها، لنشر ما طوي من الفضائل، وإظهار ما قد يكون خفياً من المزايا، وبيان جمالٍ ربما سهت عنه العيون؟!

قد يختلط الحسد بالغيرة عند الناس، فالغيرة أصل الحسد، لكنها ليست بالضرورة، حاملة للضرر، فالحسد تتجافى عنه جنوب الرجال، وتقدحه ألسنة الشعراء؛ ولذلك يستعيذ منه العقلاء في كل الملل، فهذا مردد أدعية وأوراداً بغية النجاة وأهل بيته من آثار الحسد، وذاك معلق عيناً زرقاء كما تفعل شعوب البحر الأبيض المتوسط، وثالث محرق أعواداً ومشعل أبخرة عند باب داره لتعثر عند الدخول قدم الحاسد.

وبعيداً عن نسبة تحقق ضرر الحاسد على المحسود، إلا أن الأخير في الغالب مستحق للثناء، متمتع بجميل العطاء، مظهر أثر النعمة عليه وعلى غيره، حتى إن فضل المحسود ربما عمَّ الحاسد، فما زاده هذا الفضل المتلبس بالحسد، إلا ناراً تضطرم في نفسه، ولكلٌ وجهة هو موليها.

لذلك؛ اعتبر ابن أبي حاتم: «الحسد من أخلاق اللئام، وتركه من أفعال الكرام، ولكل حريق مطفئ، ونار الحسد لا تطفأ»، أما الحسن البصري، فشبه الحاسد بالمظلوم؛ إذ قال: «ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد؛ نفس دائم، وحزن لازم، وغم لا ينفد»، وليهنأ بالحاسد، بما يليق به!

ومن الطرائف، أن بعضاً يحسد أناساً على ما يهربون منه، ويحاولون الفكاك منه، ورحم الله أبا الطيب، حين اختصر ذلك ببيت جميل:

ماذا لقيتُ من الدنيا وأعجبُه

أنِّي بما أنا شاكٍ منه محسود!

ويقال إن بيت المتنبي أعلاه، أصل فكرته ليزيد بن معاوية القائل:

إن يحسدوني على موتي فوا أسفي

حتى على الموت لا أخلو من الحسد!

لذلك؛ كان معاوية، أحد عقلاء العرب، يقول: «كل الناس أستطيع أن أرضيه، إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها»!

وأكثر ما يكون الحسد، بين الأقران؛ لذا لا تقبل شهادتهم في بعضهم، ومن عجب، أن كل مساوئ الحسد، وبالغ عيوبه، وتعدد بلاويه، لم تمنع أبا الحسن التهامي، من شكر الحاسد! نعم شكر الحسد، أيها القارئ الكريم، إذ يقول:

ما اغتابني حاسد إلا شرفت به

فحاسدي منعم في زي منتقم

فالله يكلأ حسادي فأنعمهم

عندي وإن وقعت من غير قصدهم

وقد صدق التهامي، فلا يُحسد عديم فضل، ولا قليل خلق، ولا عديم مروءة، ووقوع الحسد دليل مجد للمحسود وعلامة استمرار وإنعام، ولا ينال الحاسد من ذلك، إلا خمس يعرفها كل عاقل: «غَمٌّ لا يَنْقَطِعُ، وثانيها مُصِيبة لا يُؤجر عليها، وثالثها: مَذَمّة لا يُحْمَدُ عليها، ورابعها: سُخْطُ الرَّب، وخامسها: يُغْلَقُ عنهُ بابُ التوفيقِ»، فهنيئاً للحاسد من جديد!

وقد نظم كثيرون في ظهور فضل المحسود ولو بعد حين، ولو لم يكن من تلك الشواهد إلا هذه الثلاثة تطميناً لكل محسود لكفاه: 

إن يحسدوني فإني غيرُ لائمِهم

قبلي مِن الناسِ أهلِ الفضلِ قد حُسدوا

فدامَ لي ولهم ما بي وما بهم

ومات أكثرُنا غيظاً بما يجدُ

أنا الذي يجدوني في صدورِهم

لا أرتقي صدراً منها ولا أردُ

وأعود إلى القاضي الجرجاني، الذي أمتعنا، أعلاه، في بيان أصل الحسد؛ إذ يقول: «كم من فضيلة لو لم تسترها المحاسد، لم تبرح في الصدور كامنة، ومنقبة لو لم تزعجها المنافسة لبقيت على حالها ساكنة! لكنها برزت فتناولتها ألسن الحسد تجلوها، وهي تظن أنها تمحوها، وتشهرها وهي تحاول أن تسترها؛ حتى عثر بها من يعرف حقها، واهتدى إليها من هو أولى بها، فظهرت على لسانه في أحسن معرض، واكتست من فضله أزين ملبس؛ فعادت بعد الخمول نابهة، وبعد الذبول ناضرة، وتمكنت من بر والدها فنوهت بذكره، وقدرت على قضاء حق صاحبها فرفعت من قدره.. وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ».

لا خلاف، على أن الحسد مرض عضال، منشأه نفس خبيثة، ومنبته قلب مريض، ونتيجته مرارات في قلب الحاسد، ونيران في نفسه، والناس علية وسفلة، فمستقل ومستكثر، والظاهر صورة الباطن، والعاقل خصيم نفسه.

يقول الحكيم الشاعر أبو محسَّد:

سوى وجعِ الحساد داوٍ فإنهُ 

إذا حلَّ في قلبٍ فليس يحولُ

ولا تطمعنْ من حاسدٍ في مودةٍ 

وإن كنت تبديها له وتنيلُ

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 أتاح لها لسان حسود  أتاح لها لسان حسود



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 العرب اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 العرب اليوم - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 07:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 05:57 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاة نهال عنبر وأسرتها من موت محقق

GMT 22:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 3 جنود لبنانيين في قصف إسرائيلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيب غوارديولا يوافق على عقد جديد مع مانشستر سيتي

GMT 18:37 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن تفرض عقوبات على 6 قادة من حركة حماس

GMT 16:42 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

جماعة الحوثي تعلن استهداف سفينة في البحر الأحمر

GMT 08:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يُعلّق على فوزه بجائزة عمر الشريف

GMT 06:43 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 11:51 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تليغرام يطلق تحديثات ضخمة لاستعادة ثقة مستخدميه من جديد

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد العوضي يكشف عن بطلة مسلسله بعد انتقاد الجمهور

GMT 06:02 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 03:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تطالب بتبني قرار لوقف إطلاق النار في قطاع غزة

GMT 06:00 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتلة صورة النصر

GMT 18:42 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 18:00 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يكشف سر تكريم أحمد عز في مهرجان القاهرة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab