صولة الأسد بحديث المتنبي عن الحسد

صولة الأسد بحديث المتنبي عن الحسد

صولة الأسد بحديث المتنبي عن الحسد

 العرب اليوم -

صولة الأسد بحديث المتنبي عن الحسد

بقلم:تركي الدخيل

ومثلُ المتنبي، الذي بلغَ في سماءِ الإبداع مبلغاً عليّاً، من يَكثر حاسدوه في الدنيا، وكلَّما ازداد تألقاً، ازداد حُسَّاداً، ولا يحتاجُ للحصولِ على جيش من الحسَّاد إلى أكثرَ من العمل على الخصال الحميدة، والسجايا الطيبةِ العديدة، ومواصلةِ الترقّي في الهمم العالية، والترفُّع عن الرزايا. وهذا المسلك كفيلٌ بصناعةِ العشراتِ من الحسَّاد، وبعد أسابيعَ يزدادون عدةً وعتاداً فيصبحون في عدادِ المئات، والعدد في ازدياد. قليل يمرّون بهذه الدنيا، فيتلقّفهم كل مريض النفس، بحسدٍ لا حدّ له ولا صد، ولا رد. وما عرفَ هذا المسكين الكرم، إلا في الحسدِ، فباتَ يقضي نهارَه وليلَه يتقلَّب في الحسد، متنقلاً من دائرةِ حسدٍ إلى دائرةِ حسدٍ أخرى... ولك أن تقرأ الجملةَ السابقةَ بما يوافقُ هواك حينَها! ومن عجائبِ الدُّنيا التي لا تنقضِي، هي ما ينتصب في ذهنِك كعلامةِ استفهامٍ بارزة، من الجاهلِ الذي يدفعُه إمعانُ جهلِه إلى أن يحسدَ العاقلَ على ما يبكِي منه المحسود! ولا تحتاج للحصولِ على فرقةٍ من الحُسَّاد - يزدادون مع الأيامِ ولا ينقصون - إلى أكثرَ من أن تكونَ مقتنعاً بأنَّه لا يليقُ بك إلَّا أن تتسابقَ معهم. أما الجاهل فإنَّه لا يتورَّع عن حسدِ ذي العقل، على ما يبكي منه العاقل. وخيرُ من صوَّر هذا المشهدَ المضحك، المبكي، أبو الطيب المتنبي، في داليتِه التي أنشدَها بيومِ عرفة، وهو يُهمُّ بالفرارِ من مصر كافور:

مَاذَا لَقِيتُ مِنَ الدُّنْيَا؟ وأَعْجَبُهُ:
أَنِّي بِمَا أَنَا بَاكٍ مِنهُ مَحْسُودُ

ما ألقاه من الدنيا فيه من العجائب ما لا ينقضِي، لكنَّ أعجبَ ما لقيته هو أنّي أُحسد على ما يبكيني، فهل ثمةَ جهلٌ مثل جهلِ حاسدٍ يحسدُ العاقلَ على أمرٍ بلغَ من منافرتِه له أنَّه يبكيه! وحسدُك على ما يبكيك أعجبُ العجب، والأمرُ فادحٌ فلا تغرنَّك ميمٌ تسبقُ صائبَ! إنَّ طعانَ الدَّهرِ في جسدي أبلاه فلم يعدْ لديَّ موضعٌ من قلبي أو كبدي شيئاً:
لَمْ يَتْرُكِ الدَّهْرُ مِن قَلْبِي ولَّا كَبِدِي
شَيئًا تُتَيِّمُهُ عَينٌ ولا جِيدُ
يَا سَاقِيَيَّ أَخَمْرٌ فِي كُؤُوسِكُمَا
أَمْ فِي كُؤُوسِكُمَا هَمٌّ وتَسْهِيدُ؟
أَصَخْرَةٌ أَنَا مَا لِي ما تُغَيِّرُنِي
هَذِي المُدَامُ ولَا هَذِي الأَغَارِيدُ؟
إِذَا أَرَدتُّ كُمَيتَ اللَّونِ صَافِيَةً
وجَدتُّهَا وحَبِيبُ النَّفْسِ مَفْقُودُ
مَاذَا لَقِيتُ مِنَ الدُّنْيَا وأَعْجَبُهَ
أَنِّي بِمَا أَنَا بَاكٍ مِنهُ مَحْسُودُ؟!
أَمْسَيتُ أَرْوحَ مُثْرٍ خَازِنًا ويَداً
أَنَا الغَنِيُّ وأَمْوالي المَواعِيدُ
وفي قصيدةٍ أخرى يقول:
وما لكَلَامِ النَّاسِ فيمَا يُريبُني
أُصُولٌ ولَّا للْقائِليهِ أُصُولُ
أُعَادَى على ما يُوجِبُ الحُبَّ للفَتى
وأهْدَأُ والأَفْكَارُ فيَّ تَجُولُ

والحسدُ من أرذلِ خصالِ البشر، وأخسّها، وأوضعِها، فتخيَّل أي نفسٍ عند الحاسد، تلك التي ترضَى أن توصفَ بهذه الأوصاف، الدُّونية فيا لَحقارةِ الهم، ويا لتفاهةِ المهتم. ومن لؤم الحاسدِ، أنه موكل بالأدنى، فالأدني، والأقل فالأقل، ولا يعرف أنَّ حاسداً تحوَّلَ عن حسَّادة، أو تراجع عن حسده، وما عُلم عنه إلا زيادة بقعةِ الحسد مع تقادم الأيام، حتى توشكَ رقعةُ الحسد أن تملأَ بصرَ الحاسد، وتسدَّ عينَه القادحة شراراً، ونفسَه الفائضةَ ضرراً. لقد دعا ذلك، معاوية بن أبي سفيان، حكيم العرب، ليقول:

«يمكنني أن أرضِيَ الناس كلهم، إلا حاسدَ نعمةٍ، فإنَّه لا يرضيه منها إلا زوالُها». ووقعَ أبو الطيب بجلاءٍ على المعنى ذاته، فقال:
سوى وجعِ الحسَّادِ داوِ
فإنَّه! إذا حَلَّ في قلبٍ فليس يزولُ
فإن رمتَ مداواة عللك،
فداوِ علةً غير وجعِ الحسَّاد،
فهو مرض لا يُرجى برؤه،
وهو إذا حلَّ في قلبٍ ما فليس يزولُ.

واستخدمَ للحديث عن وقوعِ الحسد من القلب: (حلَّ)، ولم يقل نزل أو وقع أو... وحلَّ هنا تعني استوطنَ ومكث، وإذا كان الأمر هكذا، فأبشر بطول سلامة يا مربع. ومن اشتقاقات حلَّ أنَّها بعد ذلك تتطوَّر إلى دلالاتٍ أخرى منها ما تصنعه من حائل بين ما حلت به وغيره من مساحات، فكأنَّ حلَّ تهبُ صاحبَها صكَّ ملكية الأرض التي حلَّ بها، من دون شراء، ولا بيع. ويلحق ببيت المتنبي في الحديث أنَّه فيما هو باكٍ منه محسودُ، ما يذكره ابن نعيم. ما نسبَه علي القاسمي في «معجم الاستشهادات الموسع» للمتنبي، وأحسبهُ وَهَمَ: هم يحسدوني على موتِي فوَا أسفَا، حتَّى على الموتِ لا أخلو من الحسدِ! وهنا تطوَّر الحسد وازداد عسفاً في دلالته ومساحته، فبلغ الحسد على موته. وترى المتنبي كرَّر في البيت «كؤوسكما» مرتين، الأولى متسائلاً... أخمرٌ في كؤوسكما؟ والخمرُ مادةٌ محسوسة، ومن مظانّ وجودِها أن تكونَ في كؤوسِ الطلى لتسقيَ المتنادمين، أمَّا الهمُّ فليس بمادة محسوسة، بل هو مادةٌ معنوية، وليس مظنة لوجود الهمّ والتسهيد أن يكونا في الكؤوس، فمادتُهما لا تتناسب لتكونَ في الكؤوس، فلماذا تساءلَ المتنبي عارضاً في سؤاله المعنوي بالحسي، وهما لا يتناسقان مع بعضهما البعض؟! إنَّ كثرةَ كؤوسِ الخمر التي عبَّها المتنبي وسقاه إياها ساقياه، لم تجعل أيَّ أثرٍ من آثارِ شرب الخمر يظهر عليه، فلا تغير أصابَ جسَمه ولا رسمه، ولا لسانَه ولا بنانَه، وفي الوقت ذاته تمكَّن الهمُّ منه، وأثقلَ كاهلَه، وكدَّر خاطرَه، وحيث كانَ الهمُّ أتَى معه بالتسهيد، وهو السهر ومجافاة النوم، وفي الكليات أنَّ السَّهرَ، عدم النوم اختياراً والتسهيدَ مجافاةُ النومِ إجباراً. ويكادُ الهمُّ والتسهيدُ يكونان توأمين متَّصلين ببعضهما بعضاً، فلا يحلُّ الهمُّ إلا جلبَ معه السهادَ، ومجافاةَ النوم. فهم يفتئتون على من يحسدون زوراً، ويدَّعون عليهم كذباً، فيقولون عنهم ما ليس فيهم، في مقدمات تبدو منطقيةً قبل نشر رذيلةِ حسدهم! أمام هذا الكذب، لا يجدُ المتنبي أيَّ غضاضةٍ في إظهار عدم اكتراثه بأكاذيب الحسدة التي كالوها له، فهو يعرف حاله، ويعرف حالتهم، وصفاء حاله، ويقوده إلى ألا يعبأ بهذه الترهات.

 

arabstoday

GMT 07:17 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 07:13 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب اعتزاز ومذكرة مشينة

GMT 07:11 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

العدالة... ثم ماذا؟

GMT 07:08 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

GMT 07:05 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شاورما سورية سياسية مصرية

GMT 07:03 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 07:00 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

استقرار لبنان... رهينة التفاوض بالنار

GMT 06:58 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الصراع الطبقي في بريطانيا

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صولة الأسد بحديث المتنبي عن الحسد صولة الأسد بحديث المتنبي عن الحسد



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان
 العرب اليوم - غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
 العرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 08:50 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
 العرب اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 العرب اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية
 العرب اليوم - واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 07:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 11:10 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

مسيرات إسرائيلية تستهدف مستشفى كمال عدوان 7 مرات في غزة

GMT 17:28 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية

GMT 19:28 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة كاميلا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الآداب

GMT 06:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 09:52 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تشوّق جمهورها لمسرحيتها الأولى في "موسم الرياض"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab