بقلم - أمل عبد العزيز الهزاني
قراءةٌ معمّقةٌ للمشهد السياسي في المنطقة العربية خلال خمسة أعوام، تعطي تصوُّراً واضحاً كيف للتدخلات الخارجية أن أحدثت فوضى خلَّاقة للتدمير، باعثة لدوافع الاحتراب، مهددةً للاستقرار. وكيف نجحت، للأسف، هذه القوى المتطفلة في تشكيل مناخ متوتر بين دول عربية عدة، كان مخططاً له أن يتَّجهَ للأسوأ لولا أنَّ بعض القيادات العربية أدركت مؤشرات الخطر الذي أُريد لها، ولعبت دور الكابح لهذا التسارع الكبير لتركيع البلاد العربية والرجوع بها إلى استعمار مذلّ.
أكثر من ملف، كانت مثل الشوكة في البلعوم، مؤلمة ومعطلة، ولا أحد لديه الإرادة السياسية الكافية لحمل أعباء غيره، لأنَّ كلَّ دولة تنوء بحملها ومشكلاتها الذاتية. لكن تتمايز الدول بعضها عن بعض في الملمّات، وفي إجادة تصويب الأوضاع خارج حيز حدودها، لما تمتلكه من نفوذ سياسي واقتصادي يؤهلها للعب دور إقليمي ودولي.
في هذا السياق، أستعرض على عَجَل ملفات معقّدة، وما أكثرها، تحلحلت وبدا أنها تتفاعل إيجاباً مع محاولات معالجتها، والقاسم المشترك هنا هو دور الرياض، والوعي والنضج في مواقفها في قضايا خليجية وعربية عدة.
في المصالحة الأخيرة بين الدول التي قاطعت قطر قبل نحو أربع سنوات (السعودية، ومصر، والإمارات، والبحرين)، لعبت السعودية دوراً كبيراً في التجاوب مع الوساطات التي بدأت منذ بدء المقاطعة، لكن هذه الوساطات كانت دائماً ما تواجه حائطاً مسدوداً. العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز شخصية تحظى بتقدير كبير على مستوى القيادات الخليجية والعربية والدولية، وحينما وجدت السعودية أن ملف الخصام يجلب من الضرر أكثر من الفائدة، تقدمت، وبتفويض من الدول الثلاث المقاطعة، لتولي التفاوض مع قطر، لتحقيق هدف واضح، وهو البت في ملف المقاطعة بدلاً من انتظار المزيد من الوقت الذي لن يكون في صالح الخليج، وتحديداً قطر التي عانت ما يكفي من تدخلات أجنبية مسّت سيادتها خلال فترة انعزالها. السعودية وضعت مبادئ للمصالحة وقّعت عليها الدول الخمس في «قمة العلا» الأسبوع الماضي، مضمون هذه المبادئ هي نفسها نقاط الخلاف القديمة: احترام السيادة، وعدم المساس بالأمن، ومكافحة الإرهاب، وتنسيق المواقف في الملفات الإقليمية والدولية. استطاع الملك سلمان القفز فوق المراحل لحسم قضية معلّقة ما كانت لتنتهي رغم كل الوساطات المشكورة من الكويت والولايات المتحدة. وتولى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قيادة دفة المصالحة بكل اقتدار، بدءاً باستقبال دافئ لأمير قطر لدى وصوله مطار «العلا» بترحيب كريم، ودرجة رفيعة من مروءة الرجل العربي التي تسمو فوق الصغائر، من أجل المصلحة العامة الخليجية والعربية.
دول البحر الأحمر وخليج عدن: مصر، والأردن، والسودان، وجيبوتي، وإريتريا، والصومال، واليمن، كانت هي الأخرى محط تهديد وتطفل دول وجماعات، وكانت دول القرن الأفريقي أرض نزاع قوى خارجية في محاولة زعزعة أمن الخليج. هذا ما جعل الملك سلمان يؤسس لمجلس «الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن»، والتوقيع على ميثاقه قبل عام من الآن. هذا المجلس ذو الأهمية الاستراتيجية الكبرى، سيعمل على تحقيق المصالح الأمنية، وكذلك الاستثمارية للدول الأعضاء، وتأمين حركة الملاحة الدولية سواء في شمال البحر الأحمر من خلال قناة السويس، أو جنوباً من باب المندب وخليج عدن.
أما الملف السوداني فكان شغلاً شاغلاً للقيادة السعودية. تدخل الملك سلمان لدى الإدارة الأميركية لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لدعم الإدارة الجديدة بعد عزل عمر البشير، في رسالة للعالم بأن السودان الجديد بحاجة للثقة الدولية ليقف من جديد. أول زيارة لرئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك معاً كانت للرياض، بدعوة من الملك سلمان، وكانت كافية لبث الاطمئنان في القيادة السودانية الجديدة بتأييد القوى العربية الكبرى لمستجدات الساحة السودانية، واستعدادها للدعم السياسي والاقتصادي للقيادة الجديدة.
في العراق، المختطف من إيران منذ 2003، كان للملك سلمان موقف تاريخي لا يُنسى. كانت الخيارات محدودة؛ إما ترك العراق كما هو في قبضة النظام الإيراني الذي أحال العراق الغني إلى بلد مدين، لا يعرف الأمن، ومحطة طريق للإرهابيين من كل الأطياف. وإما أن يحرّك الماء الساكن بدفعة أمل حتى وإن لم تغير المشهد العراقي بشكل كبير، لكنها على أقل تقدير فتحت صدر العرب للعراق بعد سنوات من الجفاء فرضه الاحتلال الإيراني وسوء الإدارة الأميركية للوضع هناك. وجّه الملك سلمان وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير، لزيارة بغداد بعد 14 عاماً من آخر زيارة سعودية رسمية للعراق. استمرت الزيارات المتبادلة لتعزيز العلاقات الثنائية على أكثر من صعيد، جاء من نتائجها فتح معبر «عرعر» الحدودي بين البلدين أمام التجارة، للمرة الأولى منذ عام 1990 في أعقاب غزو صدام حسين للكويت. العراق المختطف من إيران وتركيا، هو بلد عربي أصيل وعريق، وفكرة محاولة عودته للحضن العربي واجب عروبي ما كان منه بُدٌّ، ولكن الإرادة العربية كانت غائبة.
أما اليمن فهو المسؤولية التي قبلت السعودية حملها واستجابت لنداء الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي لوقف تهديدات جماعة الحوثي التي تمثل إيران في اليمن، فقد قادت تحالفاً عسكرياً حشدت له من عشر دول، بعد تولي العاهل السعودي مقاليد الحكم بشهرين. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، تولت الرياض مسؤولية اليمن ليس فقط عسكرياً بقواتها المسلحة، بل بأكبر مركز إغاثي في العالم وهو «مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية»، الذي يطوف القارات بطائراته الإسعافية لإمداد مخيمات اللاجئين من كل الأديان والأعراق، بالأدوية والغذاء، وحفر الآبار، وبناء الجسور والمدارس.
عناء هذه الملفات ليس سهلاً، ولكن الإرادة السياسية لحفظ السلم الخليجي والإقليمي كانت دافعاً كافياً للمضي فيها، رغم كل التحولات المحلية والخارجية، وأبرزها ملف الطاقة وتقلبات أسعار النفط الذي كان محط اهتمام اليد اليمنى للملك الأمير محمد، واستطاع تكريس الدور الريادي للمملكة في شؤون الطاقة. الأمير محمد بن سلمان يمثل ذروة الزعماء الشباب الذي ظهر كنموذج عالمي يُنظر إليه بكثير من التقدير، ونال إعجاب المؤسسات الدولية، لجرأته في تحقيق رؤيته الاستراتيجية 2030 بكل تحدياتها، ثم تجاوز طموحه إلى حلمه بأن يكون الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة.
هذا السرد، هو محاولة لوضع النقاط على الحروف لإعطاء كل ذي حق حقه، وتأكيد واقع نعيشه بأن القيادات السياسية تتباين ما بين قيادة منكفئة على ذاتها، وأخرى تستمد قوتها من أجواء النزاعات والدمار، وقيادة مسؤولة، تملك أدوات التأثير فتستعملها لخير محيطها واستقراره.