بقلم - أمل عبد العزيز الهزاني
تسلسل غريب للأحداث في اليمن، اتضحت على أثرها أمور كانت تبدو غير مؤكدة للأطراف المراقبة؛ أهمها أن الهدف من اتفاق «استوكهولم» كما يبدو ليس إحلال السلام جزئياً في اليمن، وإنما وضع «محمية» حوثية في السواحل، ومن خلالها تُهرّب الأسلحة وقطع الصواريخ للداخل، حيث الخبراء العسكريون الإيرانيون الذين يعيدون تركيبها وتدريب الحوثيين على استخدامها وإطلاقها. الواضح أن الحديدة محمية حوثية في غرب اليمن، وتمثل عصب الحياة بالنسبة للحوثيين. المحمية تضم أهم عنصرين في كفة الحوثيين؛ قيادات إيرانية عسكرية، وورشة عمل لتجميع القطع الحربية. هذا ما يفسر الصدمة العصبية التي أصابتهم بعد أن استهدفتها ضربات التحالف، وجنوحهم سريعاً لطلب السلام واستعدادهم لوقف الاقتتال، رغم رفضهم قبل أيام لمبادرة جديدة قدمتها دول التحالف.
والحقيقة، أن أطراف الحرب في كل صراع يجتهدون لحسم المعركة لصالحهم، لذلك من المتوقع أن يكون للحوثي أساليبه الخاصة في ترقية قوته إلى أعلى مستوى ممكن للحفاظ على مكتسباته منذ انقلابه على الشرعية في 2015. لكننا لا نعيش في غابة، ولا ينظم شؤون الدول قانون الغاب. العالم كله وافق واتفق على أن يخضع الجميع لقانون دولي، يشرف على تنفيذه ومراقبته مؤسسات وضعت لهذا الغرض، وأهمها مؤسسة الأمم المتحدة. ومن ضمن هذه المهام، الحرص على حياة المدنيين وتقليل الخسائر الإنسانية قدر المستطاع من خلال مراقبة أطراف النزاع وضمان عدم إخلالهم بمبادئ حقوق الإنسان. نظرياً، يفترض بكل الدول أو الكيانات أن تكون خاضعة على نحو سواء للقانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بظروف الحرب. الأمم المتحدة لا يفترض بها أن تكون طرفاً، ولا تميل لأي طرف، لأن بقاءها على المسافة نفسها يعني ضمان قيامها بمهامها على درجة عالية من النزاهة والمصداقية.
من الملاحظ، أنه منذ اتفاق «استوكهولم» في ديسمبر (كانون الأول) 2018، لم تتقدم الجهود الأممية متراً واحداً باتجاه الاستقرار في اليمن، وكأن الهدف من كل المشاورات والتفاوض والرحلات المكوكية ومن ثم الاتفاق، هو تقديم محافظة الحديدة للحوثيين. كان الاتفاق على هدنة كجزء من حل الأزمة اليمنية، لكن من هنا بدأنا وهنا انتهينا. ونتذكر كيف فقدت البعثة الأممية توازنها بينما كانت القوات اليمنية الوطنية على أعتاب مدينة الحديدة لتحريرها قبل ثلاثة أشهر من التوقيع، وكيف مارست ضغوطاً هائلة على الشرعية لمنع دخول قواتها المدينة، لأنها ستكون نهاية الحوثيين وخسارتهم الأبدية. ما أهمية الإبقاء على الحوثيين كقوة عسكرية في الحديدة؟ لماذا رفضت الأمم المتحدة تحريرها للمدينة؟
عودة لعنوان المقال؛ ما الذي يخبئه الحوثي في الحديدة؟ الإيرانيون والسلاح، هذا صحيح، ولكن ليس هذا فحسب. الموقف السياسي الأممي من الصراع في اليمن لا يمكن التغاضي عنه وأصبح مرئياً وكأن فوقه الشمس. نحن نعيش في فترة من الزمن نشهد فيها تناقضات مريعة في المبادئ والقيم والمعايير. النواقض الأخلاقية التي نراها في تداعيات حرب أوكرانيا هي في الحقيقة موجودة منذ عقود وليست جديدة، لكن الجرأة على تناولها جاء بعد الانكشاف الصادم لحقيقة الدول الغربية التي كانت ترفع شعارات حقوق الإنسان، وحرية التعبير والإعلام، واتضح أنها مجرد شعارات زائفة فشلت عند أول اختبار. ما يحصل في اليمن من اتضاح للموقف الأممي، وتسارع أفراد البعثة الأممية للوجود في الحديدة لإجبار قوات التحالف على وقف النار، دليل على انحياز دولي من خلال المؤسسة لصالح الحوثيين، وإثبات لكل ما كنا نتردد في قوله من أن الموقف الأممي يشوبه عكارة، إما أن هناك موقفاً سياسياً تحت الطاولة، أو فساداً لا يعلم عنه مكتب المؤسسة في نيويورك.
بداية العام الحالي، صرّح التحالف العسكري بقيادة المملكة العربية السعودية بأن الحوثيين يعسكرون الموانئ الثلاثة في محافظة الحديدة: الحديدة، والصليف، ورأس عيسى. وهذه هي الموانئ التي استماتت البعثة الأممية لمنع التحالف من إغلاقها وكانت حجتها أنها شريان الحياة الوحيد لليمنيين الذين يتلقون المساعدات الإنسانية من خلاله، لذلك نفت بدايةً معلومات التحالف بوجود أسلحة في المواقع المرصودة في الموانئ بما فيها تجهيز الزوارق المفخخة. بعد تقديم التحالف للأدلة، أبدت الأمم المتحدة «قلقها» من هذه الأنباء وذكرت أن تفتيشها سيوضح الصورة. لم يحصل تفتيش ولم يتغير الموقف. ثم سمعنا خبر قرصنة سفينة «روابي» الإماراتية من قبل الحوثيين، رغم أنها كانت تنقل مستشفى ميدانياً من جزيرة سقطرى، واستمر الموقف الأممي صامتاً و»قلقاً».
الأمم المتحدة مؤسسة كبيرة، يعمل فيها جنسيات من كل الدول، ومثل أي أداة من أدوات الاستقطاب، فهي عرضة لأن تُستخدم لبسط نفوذ كيانات سياسية أو جماعات. المؤسسة أهدافها واضحة لكن تنفيذ الأهداف يحتاج نظر. الانفجارات الهائلة في الحديدة بعد ضرب قوات التحالف لمستودعات الحوثيين، والفزع الذي انتابهم، وسرعة الأمم المتحدة في وقف الضربات، دلالة على أن حسم معركة اليمن في الحديدة، وإن اتفاق «استوكهولم» عصا وضعت في الدولاب لإطالة أمد الحرب واستنزاف دول التحالف.