منطق الفرعون الذي طلب الحقيقة

منطق الفرعون الذي طلب الحقيقة

منطق الفرعون الذي طلب الحقيقة

 العرب اليوم -

منطق الفرعون الذي طلب الحقيقة

بقلم - سليمان جودة

من المواقف المروية في التاريخ الفرعوني، أن جريمة وقعت في قصر الحكم، وأن الفرعون الذي كان يحكم من القصر قد جمع المسؤولين ثم قال: أريد الحقيقة لأحكم بالعدل.

     

 

             

 

ورغم أنها عبارة قصيرة فإنها كبيرة المعنى؛ لأن وقوع أي جريمة هو مجرد وجه من وجهين فيها، ولا سبيل إلى الحكم العادل في الموضوع، إلا إذا كان الوجه الآخر في وضوح الوجه الأول.

ومن عصر الفراعنة قبل ميلاد المسيح - عليه السلام - بآلاف السنين، إلى عصرنا الذي جاوز ألفي سنة بعد الميلاد نفسه، تتعدد القضايا التي تتشابه مع جريمة قصر الفرعون، ولا يكون وجه الشبه بينها إلا في حضور وجه وغياب الوجه الآخر.

ولا قضية مشابهة أقرب إلينا من الجريمة التي هزّت العالم في مثل هذا الشهر من عام 1945، وكان ذلك عندما قذفت الولايات المتحدة الأمريكية مدينتين يابانيتين بقنبلتين ذريتين، فقتلت فيهما ما يقرب من ربع مليون إنسان.

لم يحدث مع بلد آخر ما حدث مع اليابان على يد الولايات المتحدة، ولا يزال شهر أغسطس (آب) شهراً يابانياً بامتياز، وهو لا يأتي في كل سنة إلا ويتجدد فيه الكلام عما جرى في السادس منه في تلك السنة لمدينة هيروشيما، ثم ما أصاب مدينة ناجازاكي في التاسع منه، ففي المرتين كانت طائرة أمريكية قد ذهبت تُحلّق في سماء المدينتين، وكانت تفتح عليهما نافذة من جهنم ثم تنصرف عائدة إلى بلادها وهي لا تبالي.

ومن عشر سنوات كنت في هيروشيما، ورأيت ما يحتفظ به أهلها مما أصابها وأصاب آباءهم وأجدادهم في ذلك اليوم، وجلست مع بعض الذين نجوا لأنهم كانوا خارج المدينة أو كانوا في طرف بعيد من أطرافها، ولكنهم كانوا ولا يزالون يحملون على وجوههم أثراً مما جرى، وللوهلة الأولى ترى في ملامح الوجوه ما خلّفته القنبلة من أثر في الدم وعلى الجلد، وترى الشخص الناجي أمامك وكأنهم أدخلوه في فرن ثم أخرجوه ليعيش!

وحين تأملت الصورة التي تجمعني مع اثنين من الناجين، استحضرت حكمة الفرعون الذي رأى الوجه الأول من جريمة القصر، فلم يفرض العقوبة على الفاعل متسرعاً، ولكنه طلب الوجه الآخر ليضع الوجهين أمام بعضهما بعضاً؛ وقد طلب ذلك لأنه عندها سيكون في مقدوره أن يصدر حكماً، ولأنه عندها أيضاً سيكون في إمكانه أن يعاقب الجاني فلا يرميه أحد بأنه ظالم.

إننا نروي مشاهد القنبلة في موعدها من كل سنة، دون أن نتساءل عن الوجه الآخر فيها؛ لأننا حتى ولو كنا ننكر على الولايات المتحدة ما فعلت، وحتى ولو كنا نضع وزر المدينتين في رقبة الرئيس الأمريكي هاري ترومان الذي أصدر الأمر بقذفهما، إلا أن علينا أن نتطلع إلى الوجه الآخر من الموضوع مهما كانت بشاعة الوجه الأول.

والوجه الآخر هو ما قامت به اليابان قبلها في حق الولايات المتحدة، عندما هاجمت القوات اليابانية الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور فدمّرته كله تقريباً.

إن السفير منير زهران كان شاهداً على حرب الأيام الستة التي اندلعت بين مصر وإسرائيل في 1967، وعندما أصدر مذكراته روى فيها جانباً مما حدث، ومما رواه أن إسرائيل أطلقت 492 طلعة جوية في الصباح الباكر من أول أيام الحرب، وأن هذه الطلعات أصابت 25 مطاراً عسكرياً، ودمرت الغالبية من طائرات سلاح الجو المصري وهي رابضة على الأرض.

هذا وجه من وجوه تلك الحرب لا يحضر عندما نتكلم عنها، وهو وجه لا بد أن يكون حاضراً لعل الصورة في النهاية تكتمل، ولعلنا نرى ما وقع من شتى جوانبه في إطار جامع.

وما ألحقته اليابان بالأسطول الأمريكي لا يختلف كثيراً عما ألحقته الطلعات الإسرائيلية بسلاح الجو في مصر، بل إن الضربة كانت أعنف وأشد في الحالة اليابانية - الأمريكية؛ لأن اليابان دمرت 188 طائرة، وقتلت ما يزيد على 2500 جندي من جنود البحرية الأمريكية، وأغرقت عشرات السفن، ولم تغادر إلا والأسطول عبارة عن بقايا.

وإذا كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قد قبلت الإفراج عن ستة مليارات من الدولارات الإيرانية المجمدة، في مقابل إطلاق سراح خمسة من الرهائن الأمريكيين المعتقلين في طهران، فإن لنا أن نتصور ما كان على الإدارة الأمريكية أن تفعله وقت الحرب العالمية الثانية في اليابان، لتسترد حقاً تراه عادلاً لجنودها القتلى بالمئات، فضلاً عن الطائرات والسفن المدمرة والغارقة.

بالتأكيد، ليس هذا تبريراً لقذف مدينتين بقنبلتين ذريتين وتسويتهما بالأرض، فلا شيء يوازي حياة الإنسان من حيث هو إنسان في أي مكان، ولكنها دعوة إلى استحضار الوجه الآخر دائماً في كل قضية، كما أنها دعوة إلى التأمل في منطق الفرعون الذي طلب الحقيقة ليحكم بالعدل.

من دون الوجه الآخر في كل قضية، فإن الحقيقة تغيب بالضرورة، وفي غيابها ينحرف الحكم عن ميزان العدل ولا يستوي على قدمين.

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

منطق الفرعون الذي طلب الحقيقة منطق الفرعون الذي طلب الحقيقة



هيفا وهبي تعكس الابتكار في عالم الموضة عبر اختيارات الحقائب الصغيرة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 06:42 2025 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

غوغل تكشف موعد تغيير تسمية خليج المكسيك
 العرب اليوم - غوغل تكشف موعد تغيير تسمية خليج المكسيك

GMT 12:06 2025 الإثنين ,27 كانون الثاني / يناير

أنغام في أول حفل بعد أزمة عبد المجيد عبدالله

GMT 11:50 2025 الإثنين ,27 كانون الثاني / يناير

منة شلبي تكشف حقيقة زواجها سرّاً

GMT 11:53 2025 الإثنين ,27 كانون الثاني / يناير

يسرا اللوزي تكشف أسلوبها في التعامل مع التنمر

GMT 11:59 2025 الإثنين ,27 كانون الثاني / يناير

روجينا توجّه رسالة مؤثّرة لرانيا فريد شوقي

GMT 06:42 2025 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

غوغل تكشف موعد تغيير تسمية خليج المكسيك

GMT 15:48 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

محمد إمام يشعل مواقع التواصل برسالته لعمرو دياب

GMT 15:45 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

هيدي كرم تعلن رأيها في عمليات التجميل

GMT 15:52 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

رانيا فريد شوقي تردّ على التنمر بها

GMT 16:12 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

إياد نصار يتحدث عن تحديات مسلسله في رمضان

GMT 10:55 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

حكومة غزة تحذر المواطنين من الاقتراب من محور نتساريم

GMT 16:19 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

صابر الرباعي يطرح أحدث أغانيه مخزون السعادة عبر يوتيوب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab