يأبى منتدى أصيلة الثقافي الدولي إلا أن ينتصر للقارة السمراء، فلا يمر موسم من مواسمه إلا وتكون لأفريقيا فيه حصة معلومة.
والحصة المعلومة ليست في كل موسم جديد وفقط، ولكنها أيضاً في أرض مدينة أصيلة التي تنام على كتف الأطلنطي حالمةً في وداعةٍ وهدوء. والقصة أنك إذا كنت في أصيلة سوف تمر في طريقك إلى الجزء التاريخي من المدينة على حديقة صغيرة تقع إلى اليسار من المدخل، فإذا اقتربتَ من باب الحديقة تَبين لك أنها تحمل اسم الشاعر الكونغولي تشكايا أوتامسي، فإذا اقتربت أكثر من اللافتة التي تحمل اسمه فسوف تطالع أشعاراً له منقوشة على لوحة رخامية، ومنها هذه الكلمات: الليل آتٍ... روحي متأهبة تماماً.
هذا عن حصة الأرض، فماذا عن الحصة الأخرى في مناقشات موسم هذه السنة الذي يلملم أوراقه هذا النهار، ويطوي صفحته الرابعة والأربعين، ويمنح وعداً للقارة السمراء ومعها عواصم العرب بأن تكون القضايا العربية والأفريقية حاضرة فيه فلا تغيب؟
جرت الحصة الأخرى في فضاء الموسم على خطين؛ أحدهما راح يتطلع إلى منطقة الصحراء الكبرى التي تمتد من شرق القارة السمراء إلى غربها، ثم يتساءل عن الطريقة التي يمكن أن تنتقل بها هذه المنطقة من مربع التفكك الذي يوشك أن يضرب بعض دولها إلى أفق السلام الدائم، ومن الانهيار الذي يُخيّم كأنه الكابوس على البعض الآخر من دولها، إلى الإقلاع نحو عملية تنموية تنتظرها الصحراء الكبرى وتحتاج إليها؟
والخط الثاني يستوقفه هذا التفاعل الحاصل بين أفريقيا والغرب هذه الأيام، ويدعو إلى أن تغادر العلاقة بينهما ما كان في الموروث إلى ما يمكن في المأمول.
وحتى تكون المعاني محددة أمامنا، فلا نتحدث عن شيء وينصرف ذهن القارئ أو السامع إلى شيء آخر، فإن طرح المنتدى الموضوع يميز في الصحراء الكبرى بين مجالات إقليمية ثلاثة: الصحراء الشمالية الممتدة من غرب النيل وجنوب البحر المتوسط في مصر وليبيا والسودان، والصحراء الساحلية الممتدة من موريتانيا إلى دارفور، وصحراء الشرق الأفريقي الممتدة من الصومال إلى جنوب البحر الأحمر عبر جيبوتي.
والغرب الذي يعنيه المنتدى وهو يتعرض للشأن الأفريقي قسمان: قسم يضم الولايات المتحدة وكندا في أميركا الشمالية، وقسم يضم الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في القارة العجوز.
ولأن هذا هو تصور الموسم الرابع والأربعين الذي صار من الماضي أو كاد، فربما يكون الموسم الخامس والأربعون في حاجة حين يأتي أوانه، إلى أن يبحث في العلاقة بين أفريقيا والعالم على مستوى آخر، لأن علاقتها بالغرب قد تكون مهمة لأسباب كثيرة، ولكن علاقتها بالروس والصينيين ليست أقل أهمية، بل قد تكون أهم، فالصين كانت أسبق من الغرب إلى قارتنا، ولأن الروس كانوا أسبق أيضاً في التفتيش عن مناطق نفوذ وسطوة في أفريقيا.
الغرب أقدم في القارة السمراء إذا ما قسنا الأمور على ما جرى في العصور القديمة، ولكنه عندما عاد إليها في أيامه المعاصرة وجد الصين جالسة هناك تنتظره، وصادف الروس في سبيله وهُم يسارعون إلى حجز مقعد إلى جوار الصينيين.
وعندما وقع انقلاب النيجر على سبيل المثال في صيف هذه السنة، كانت المفارقة أن حضور الروس لدى نظام الحكم الجديد بدا أقوى من الحضور الفرنسي بكثير، وكان الذين يخرجون في الشوارع النيجرية لتأييد النظام الجديد يرفعون أعلامهم الوطنية ومعها الأعلام الروسية.
ولم يجد الفرنسيون مفراً، ليس فقط من سحب قواتهم الموجودة في العاصمة نيامي، ولكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين إلى سحب السفير مع القوات، وشهد خروج السفير نوعاً من الدراما السياسية غير المسبوقة، لأن السلطات الجديدة أعلنته شخصاً غير مرغوب فيه وطلبت منه أن يغادر، فلما رفض المغادرة أسقطت عنه الحصانة الدبلوماسية وكلّفت الشرطة بطرده خارج البلاد.
ولم يكن المشهد يخلو من هزيمة غربية نسبية في أفريقيا، بقدر ما كان تعبيراً عن هزيمة فرنسية تجرعتها فرنسا كأنها تتجرع كأساً من السُّم، ولو اقتصرت المسألة على النيجر وتوقفت عند حدودها لهان الأمر على الفرنسيين ومِن ورائهم الغربيون، ولكنّ حكومة إيمانويل ماكرون كانت من قبل قد واجهت في مالي وبوركينا فاسو بعضاً مما واجهته في النيجر.
وقد بدت الصورة كأن عملية من عمليات الإزاحة تتم في أفريقيا، لأن فرنسا كانت كلما غادرت موقعاً من مواقعها التقليدية في القارة اكتشفت أن موسكو تملأه وتتربع فيه، وكان الروس كأنهم يخفّفون الضغط على الجبهة الأوكرانية، وكانوا يفعلون ذلك بفتح جبهة أفريقية في الصراع مع الغرب، وكانت القارة السمراء ولا تزال هي الميدان المفتوح لهذه الجبهة الثانية!
المغرب يحرص على محيطه العربي بالدرجة التي يقبض بها على امتداده في أفريقيا، وليس الحضور الأفريقي المتجدد في منتدى أصيلة سوى مرآة يتجلى فيها هذا الحرص على قدر ما هو ممكن ومتاح، ولا تزال في علاقة القارة بالعالم المتصارع عليها حلقات سوف تأتي، وفيها لن يكون الغرب بمعناه المشار إليه وحيداً يصارع أفريقيا وتصارعه، ولكنه سيكون مصارعاً بين مصارعين.
لم تحضر القارة السمراء في منتدى أصيلة، إلا لأن تجليات الحضور الغربي فيها كانت ولا تزال متنوعة، ولكن الحضور الغربي يقع ضمن نطاق نفوذ دولي أوسع يضم الروس والصينيين مع الغرب فوق أرض أفريقية واحدة، وربما يجد المنتدى أنه مدعوٌّ في موسمه الجديد إلى أن ينطر في هذا ويتداركه.